ذكرنا القرار الباكستانى بعمقنا الإسلامى المهدر، الذى تجاهلناه وأهملناه فى زحام التحديات والصراعات حتى كدنا نفقده، رغم علمنا التام بأهميته وضرورته لنصرتنا ودعم قضايانا، ولصيانة وجودنا كأمة مستهدفة، لها حضارة ودين وهوية وثقافة تواجه مناوأة ومناكفة من الغرب والشرق على حد سواء، ورحم الله الشيخ محمد الغزالى الذى كان دائم التذكير بهذا العمق الإسلامى المهدر، مؤكدا أن الأمة العربية ليست وحدها ممثلة الإسلام، وأن تاريخ الإسلام ليس تاريخ العرب وحدهم، فهناك أمم أخرى فى آسيا وإفريقيا أقامت دولا وممالك حملت لواء الإسلام وعملت على نشره والدعوة إليه، لكننا لانعرف عنها شيئا، ولا نهتم بإقامة جسور التواصل معها إلا فيما ندر .
القرار الباكستانى جاء تنفيذا لقانون أصدره مجلس الشيوخ هناك الأسبوع الماضى يلزم جميع المدارس بتدريس اللغة العربية من الصف الأول إلى الصف الخامس، ثم تدريس قواعدها من الصف السادس إلى الصف الثانى عشر، على أن يبدأ تطبيق القرار فى المدارس خلال ستة أشهر .
ومعروف أن دولة باكستان المسلمة يتحدث أهلها عدة لغات محلية، وقد لايفهم سكان بعض الأقاليم لغة سكان أقاليم أخرى مجاورة، ومن هذه اللغات المحلية الكثيرة البنجابية والباشتو والسندية والبلوشية، أما اللغتان الرسميتان فهما الأردية والإنجليزية، والأردية خليط لغوى من الفارسية والعربية والتركية، ومازالت تكتب بحروف عربية مثل اللغة الفارسية، ورغم أنها تعد فى الواقع هى اللغة الوطنية إلا أن نسبة المتحدثين بها لاتتجاوز 8% من عدد السكان، وأغلبية الشعب الباكستانى يفضلون الحديث بلغاتهم الإقليمية، وقد بذلت محاولات كثيرة من جانب مؤسسى الدولة فى مرحلة الاستقلال عام 1947 للنص صراحة فى الدستور على اعتبار اللغة العربية هى اللغة الرسمية، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل أمام ضغوط القوى الكبرى التى كانت تشرف على عملية الاستقلال والتأسيس وتحدد مساراتها .
ومن عجيب الأقدار أن تأتى الخطوة الباكستانية فى مرحلة اضمحلال عروبى، ليس فيها ما يحفز الآخرين على الاحتفاء بلغة العرب وثقافتهم وطريقة حياتهم، فهم الآن ليسوا صناع حضارة بل مستهلكون لحضارة الغرب، وهم أكثر شعوب الأرض انتهاكا وإضعافا للغتهم التى احتفى الخالق جل شأنه بها، واختارها لتكون حاملة لآخر رسالاته إلى الناس جميعا، وكتب لها الخلود بحفظه لكتابه العزيز، ولم تعد لهم ريادة فى أى مجال بل صاروا تابعين، شغلتهم صراعاتهم الداخلية عن التطلع خارج حدودهم وجعلت بأسهم بينهم شديدا، ولم يعد لديهم ما يجعل منهم نموذجا يحتذى، وهذا كله يؤكد أن دافع القرار الباكستانى وقبله القرار التركى دينى بحت، لإعادة التواصل بين حاضر هذه الشعوب وتراثها الإسلامى، العابر لحدود الجغرافيا إلى أعماق التاريخ والحضارة .
نحن أمام حالة من الوعى بالذات نشأت ونضجت وبدأت تعبر عن نفسها بأشكال عدة تتجاوز أشواق الحنين إلى الماضى، وتدرك أن امتلاك أسباب القوة والعودة إلى الصفوف الأولى بين الأمم لايكون إلا بتدعيم الهوية الإسلامية، والارتباط بالبنيان الثقافى الإسلامى الذى يعطى للمواطن وللدولة شخصيتها وخصوصيتها المتفردة، وهذا البنيان الثقافى الإسلامى يتوفر بالعودة إلى اللغة العربية التى هى مفتاح كنوز العقل الإسلامى عبر الزمان والمكان .
ومما يؤسف له أن العرب لم ينشغلوا بأمر لغتهم خارجيا كما لم يهتموا بها داخليا ، ورغم انخراطهم فى منظمات تسمح لهم بنشر لغتهم وثقافتهم وفنونهم بمحيطهم الإقليمى، خاصة محيطهم الإسلامى المرتبط بهم دينيا والمتداخل معهم ثقافيا واقتصاديا، إلا أن هذا لم يحدث، أو على الأقل لم نسمع به إلا فى من خلال جهود فردية متناثرة لبعض الدعاة والمتحمسين هنا وهناك، وقد كان الواجب أن تضطلع بهذا الدور المقبول والمطلوب منظمات مقتدرة مثل منظمة التعاون الإسلامى أو رابطة العالم الإسلامى، وما يتفرع عنهما من منظمات وهيئات تمتلك المال والرجال، ولها شرعية الحضور والتأثير .
كان الواجب أن ندرك أن اللغة العربية هي إحدى أهم أدوات التواصل والارتباط بيننا وبين عمقنا الاستراتيجى الطبيعى، بل لعلها أهم أدوات القوة الناعمة التى مازالت متوفرة لنا فى محيطنا الإسلامى، وكان علينا تأسيس الأجهزة القادرة على نشر ودعم اللغة العربية فى البلدان الإسلامية المتشوقة إليها، مثل تركيا وإيران وباكستان وبنجلاديش وأفغانستان وأذربيجان وإثيوبيا وتشاد ومالى وتنزانيا والبوسنة والهرسك، بصرف النظر عن الخلافات القائمة مع بعض تلك الدول .
الغريب والمحزن أننا لم نفعل شيئا كبيرا ومؤسسيا لدعم اللغة العربية ورفع شأنها حتى فى الدول التى صارت عضوا بجامعة الدول العربية مثل الصومال وجزر القمر وجيبوتى، أو تلك التى أعلنت رغبتها مرارا وتكرارا فى الانضمام إلى الجامعة ورفض طلبها مثل جنوب السودان وإريتريا وتشاد لأن دستورها لا ينص على أن اللغة العربية هى لغتها الرسمية .
إن دعم اللغة العربية ونشرها يحتاج إلى عقول مبدعة وعزائم قوية ووعى بضرورات العمق الاسترتيجى، خصوصا إذا كانت الظروف مشجعة، ولايمكن إنكار جهود الأزهر الشريف والكثير من المؤسسات الدعوية فى هذا المجال بإنشاء المراكز والمساجد والمدارس التى تضطلع بمهمة تعليم اللغة العربية إلى جانب دورها الدينى، ولدينا تجربة جامعة ” نورـ مبارك ” التى أنشاتها مصرلنشر الثقافة الإسلامية فى كازاخستان عام2001، ويتم التدريس فيها باللغتين العربية واالكازاخية، كنموذج ناجح للتعاون مع الدول الإسلامية يمكن تكراره، لكننا نتطلع إلى المستوى الرسمى، السيادى، أن تكون العربية لغة رسمية، والتعليم بها إلزامى على الأقل فى مراحل التعليم الأساسى .
ودعونا نحلم بأن تكون المرحلة التالية هى عودة الشعوب الإسلامية إلى كتابة لغاتها بالحروف العربية كما كانت، لنعبر مرحلة الانتكاسات التى حدثت فى تاريخنا الحديث، وخلقت تيارا متطرفا فى عدائه للإسلام ولغة القرآن الكريم .