الوعي بمفهومه العام، هو معرفة الإنسان لما يصلح لهُ في إطار تطوير وتجديد أساليب حياته، كي تُصبح على درجة جيدة من الجودة والارتقاء، والاستجابة لنمط العيش السليم الذي يذلّل مشاكل الفرد والمجتمع، على أن يقترن نمط العيش بالكرامة والحرية وعدم ارتهان الذات للغير لأي سبب من الأسباب، والوعي يتعدّد بتعددّ أطًر الحياة ومساراتها، فهناك وعي سياسي وآخر اقتصادي وثالث اجتماعي، ومن مجموع أنماط الوعي ومجالاته يمكن أن تتحسن حياة المجتمع.
يعد الوعي ركيزة من ركائز تقدم أي مجتمع وتطوره, بل وله دوره الكبير والرئيس في استقرار المجتمع والنهوض به, وذلك بالرفع من شأن أفراده, كما يشكل الوعي خطوة مهمة في تطوير الذات, وخلق الإنسان المبدع المثقف المتفهم وبالتالي الواعي الذي يساهم في بناء المجتمع وتطوره. إن تطوير الوعي يبدأ من الذات أولاً, وبابه مراقبة الإنسان لنفسه أي مراقبة أفكاره ومشاعره وسلوكه وثقافته وملاحظة تلك الأفكار التي تشعره بالغبطة والحيوية والانفتاح والأفكار التي تسلبه طاقته, وتشعره بالضعف أو الألم والمعاناة والانغلاق على الذات,
إن الانسان من خلال مراقبته لنفسه سيصل إلى أن مشاعره معظمها وليدة أفكاره, وأن سلوكه وليد أفكاره ومشاعره ولذلك فإن عملية التطوير الذاتي تبدأ من مراقبته الأفكار وأثرها على النفس ليرتقي باستبدال كل فكرة سلبية, بفكرة إيجابية مناسبة حتى يملأ الإنسان عقله الواعي واللاواعي, بأفكار وثقافة بناءة تزيح ما علق بذهنه من الماضي من أفكار كانت تعيق تطوره حتى يساعده ذلك في نفس الوقت على التطور والارتقاء.
ولهذا عددنا الوعي هو مقياس تطور المجتمعات, لأنه يمكننا من إصدار أحكام على التصرفات والسلوكيات الفردية والمجتمعية فنقبله لإنجابيتها, أو نرفضها لسلبيتها, وهذه الأحكام نابعة من مدى شعور الفرد بمسئوليته تجاه نفسه والآخرين, وحين ينحو الأفراد إلى التعبير عن سلوكياتهم, في كل مناحي الحياة تعبيراً إيجابياً, فإنهم بهذا يكونون قد حملوا هم الوعي, وسعوا إلى نشره, ونجحوا في مقاصدهم, وهذا ما فعله الإسلام, وحرص عليه.
ولا شك أن الوعي بمعناه العام حالة صحية إيجابية, تعكس فهم المرء لواقعه بكل مكوناته من صعوبات وتحديات وفرص ومجالات قوة ومواطن ضعف, وتضعه في الموقع المناسب لتحديد الخطوات ورسم السياسات واتخاذ القرارات, بما يحقق الوصول للمراد في أقرب وقت, وبأدنى كلفة وأقل خسارة, وإذا كان الوعي مطلوباً على المستوى الفردي لتحقيق النجاح
فإنه سيكون أوجب, بمراحل على المستوى المجتمعي للنهوض وتحقيق المراد وتحصيل المصالح الكبرى وتجاوز العقبات, وستتجسد حالة الوعي هذه في طريقة وحركة قياداته الإدارية والاجتماعية الفاعلة سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات. وحين يكون المجتمع واعياً مثقفاً مدركاً لواقعه كما هو دون مغالطة أو تزييف, وملماً بما يتطلبه النجاح من مقدمات ولوازم وتضحيات ومنتبهاً للمخاطر المتربصة به, فإنه حينها سيكون متى وجدت الإرادة الحقيقية على جادة النهوض الحضاري, ولكن المصيبة كل المصيبة حين لا يكون المجتمع واعياً مثقفاً غير ملماً ومدركاً بواقعه وظروفه ومكائد أعدائه فيعيش على غير وضوح في السياسات والخطط والرؤى المستقبلية, وتراه متخبطاً في أزماته متنقلاً بينها دون خطوات حقيقية تأخذه للأمام, بل تمضي السنوات الطوال والعقود المتتابعة وهو يراوح مكانه وربما تراجع إلى الوراء. وقد أثبتت تجارب المجتمعات أن الكيانات الواعية من المثقفين والمبدعين لهم دور الجسر الواصل بين السلطة والشعوب,
وبين مجريات الواقع داخلياً وخارجياً وروح الشعوب, ففي كل عمليات الحفاظ على المجتمعات أو تغيير المجتمعات يعتمد الحفاظ والتغيير غالباً على وعي المثقفين والمبدعين في شتى المجالات, لتأثيرهم كأكبر قوة ناعمة مؤثرة على المجتمع تخاطب القلب والعقل معاً, وتضع بصمتها المؤثرة سلباً كانت أو إيجاباً. لذا فإن المثقف والمبدع الواعي هو صوت الأمم ولسان حال شعوبها والعين التي يرى من خلالها المجتمع ما يحدث في العالم من مجريات وأخطار, بكافة أشكالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولهذا فإن الشخص الواعي بمثابة صمام الأمان لمجتمعه, حين يبصر ويحلل ويوضح الحقائق وينبه وينوه إلى المخاطر, وحين يصبح هذا الصمام محصناً بالوعي والأمانة والصدق والإخلاص يبقى المجتمع آمناً من أي مستغل أو طامع أو غزو فكري أو ثقافي يهدم بنيانه ويفتت كيانه.
وهناك من المثقفين والمبدعين الواعين أنواع باتت واضحة وضوح الشمس, هناك نوع يكتفي بدور المتفرج إزاء ما يحدث, وكأنه غير معني بما يجري, سابحاً في قضاياه الشخصية, غارق في أمور سطحية وهامشية مستمراً في بناء اسمه وكيانه وشهرته. وهناك نوع آخر هدام يدعوا للتشاؤم وإلقاء اللوم على المجتمعات, ويشيع ثقافة الإحباط واليأس, وهناك نوع متفشي كالخلايا السرطانية التي تنخر في عضد ووعي المجتمعات وهو الأخطر وهو ذاك النوع الانتهازي المتسلق المريض الذي, يستغل الأحداث لتلميع صورته وإبراز اسمه في كل ميدان, شخص لا يعطي الحلول ولا تنتظر منه حقائق, بل ويتغنى بالأحداث تماشياً مع الجو المحيط ليس له مبدأ واضح ولا فكر صادق ككل صاحب دور منافق, وصوت متلون حسب السياسات العامة وهذا النوع لا يخدم مجتمعه,
بل يخدم مصلحته واهواءه واستمرار تبعيته. أما النوع الذي تحتاجه المجتمعات فهو الذي يبني المجتمع, صاحب القضية الحقيقة ذاك الشخص الفاعل المتأثر بقضايا المجتمع لسان حال الشعوب ووعي الأمم ونبراس الحق والعدل الذي يسعى جاهداً لبناء مجتمع, مستنير بوعي ورساله وأمانة مدركاً حجم المسئولية التي وقعت على كاهله,
وأن لقب مثقف أو مبدع إنما هو لقب مسئولية لا تشريف وأنه يحمل في رقبته أمانه وعي ومصير وذاك النوع المنشود لا يصيبه اليأس من التناقضات الموجودة, بل يستمر في طرح الأفكار والنقد البناء والرفض لأي تجاوزات سياسية أو مجتمعيه ومحاربة أي سلوك عدائي, وأي آفة فكرية تصيب ثقافة ووعي المجتمعات, تتملكه الغيرة على الاوطان والشعوب ويحارب أي آفة فكرية تصيب ثقافة مجتمعه, وأي قرار سياسي يضر بمصالح الشعوب, يقدم المصلحة العامة للشعوب علي مصلحته الخاصة, ولربما يدفع الغالي والنفيس في المقابل دون أي عائد شخصي عليه, سوى أنه صاحب رسالة صادقة يحمل أمانه في رقبته وهموم مجتمع يتألم من أجله, وتقع جميعها على كاهله, فالمجتمعات والأمم لا تبني بالتمني والخديعة وإنما تبني بالإرادة الحقيقة والضمائر التي تدفع للبناء بالعقل والعمل بصدق ووعي وأمانة وإخلاص. ويكون الدور الأكبر في تشكيل وخلق وعي وشخصية وثقافة الإنسان, على الأسرة, ويلي ذلك المدرسة, ثم المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني والإعلام,
لكشف العلل التي تقف وراء ظهور الأزمات الاجتماعية والاخلاقية, ثم الكشف عن مخاطرها على حياة الأفراد والمجتمع, ثم الدولة بشكل عام, أن الإنسان كلما أنار طريقه بالتصحيح والرقي تقلصت مساحة الظلام في جوفه والمحيطة به حتى ينعم هو ومن حوله من الناس بذلك النور أكثر فأكثر, وتجد الذين وصلوا لمرحلة مناسبة من التطور الذاتي يصبحون قادرين على العطاء, وخدمة مجتمعهم, فهم بدورهم يدخلون هذا الوعي لمحيطهم الاجتماعي أو المهني بطريقة مناسبة ترفع مستوى الوعي وتفتح له آفاقاً جديدة.
إن الوعي الذاتي إذاً كلما عم توسع تأثيره في أكبر شريحة من المجتمع, وأقوى وسائل ترقيته وتوسيعه هي التربية أولاً ثم التعليم ثانياً ثم الإعلام ثالثاً بمختلف أنواعه وآلياته كشبكة الإنترنت في عصرنا الحاضر, فلها دور كبير في تشكيل وعي المجتمع لذا يجب توجيه الاهتمام لها وجعلها وسيلة من الوسائل المهمة في نشر الوعي الذاتي.
دور وسائل الإعلام في بناء الواقع وصناعة الرأي العام سبعة فصول. تناول الفصل الأول الموسوم ب» وسائل الإعلام وبناء الواقع» دور الإعلام في تشكيل الوعي الجماعي وصناعة الواقع والتأثيرات العديدة التي تتركها الصورة على سلوك الفرد وإلى أي مدى تحدد وسائل الإعلام نظرتنا للآخر وكيف ينظر الآخر لنا. أسوء ما في الأمر أن عدم الاهتمام بمصادر الوعي آل إلى مصير قاتل للإنسان وعقلة في كل شيء ثقافياً وسياسياً ودينياً واقتصادياً وفِي كافة مجالات الحياة، حيث كل ما حولنا هو مرتبط بدرجة ما من الوعي وعلى قدر اكتسابنا لهذا الوعي يتحقق التقدم المعرفي والصناعي والاقتصادي وغيرها في كافة المجالات.
أعز ما يملك الإنسان هو عقله، وهذا العقل يحتاج للعناية المستمرة والمراجعة والتطوير من حين إلى آخر، نتمنى أن تحظى الأجيال الحالية والقادمة بشيء من الوعي عبر إصلاح المنظومات الأساسية الداعمة لها.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان