توقف الأستاذ طويلا عند جملة كتبها أحد تلامذته يقول فيه :” أسعد بمراسلتك كنوع من البر من طالب علم لاستاذه “. فللمرة الأول يسمع الأستاذ عن البر بالمُعلم . فقد سمع كثيرا عن تكريم المُعلم واحترام المُعلم وتقدير المُعلم ، أما البر به فهو مفهوم جديد يطرحه التلميذ مما يكشف عن واسع فهمه ،وعن عمق ما تعلمه، وعن قيمة ما قدمه المعلم .
ولم يخف المُعلم سعادته برسالة تلميذه الذي يعمل في مهنة أصحاب القلم . وأظهر المعلم سعادة أكبر، عندما استجاب التلميذ لنصيحته بأن يواصل الدرب كي ينفع الناس بفكره ، فرد قائلا : ” لم ولن أتوقف عن التواصل، بكل ما يمن الله به علي من عطاء العقل أو النقل أو بهما معا،لا في ظروف اضطرارية خارجة عن الإرادة. والدعاء موصول لكم بموفور الصحة وطول العمر وإن يبارك عقلكم وقلمكم”.
وهنا أظهر الأستاذ فرحة كبرى وقال : ” الحمد لله الذي أطال في عمري كي أشاهد ثمرة جهدي “، فقد كان كل اهتمامه توريث الأصول والقيم الصحيحة للمهنة. فالبر بالمُعلم لا يقتصر على السؤال عنه أو زيارته من تلامذته وإن كان هذا مطلوبا ، ولا يفعله سوى القلة . ولكن البر الأكبر أن يستفيدوا بما يتعلمونه ويسعون بكل جهد واخلاص لتحقيق المنفعة للمجتمع والناس .
وليس المقصود هنا البر بالمُعلم المتعارف عليه وهو معلم المدرسة أو الجامعة أو الشيخ فقط ولكنه يمتد إلى البر بكل من علمنا في أي شأن من شئون الحياة الدنيا أو الأخرة.
ويجدر بنا هنا تناول مفهوم البر حيث يذهب تفكيرنا مباشرة إلى البر بالوالدين . وكأن البر قاصر على العلاقة بين الإبن أو الإبنة وبين الأبوين بمعني طاعتهما والإحسان إليهما . وهذا صحيح ولكنه فهم قاصر ، لأن البر مفهوم عام واسع وشامل . وجاء في موسوعة ” الدرر السنية” أن البِرُّ لغة يعني الصِّدق والطَّاعة والخير والفضل. أما البر اصطلاحا فهو :” فهو التوسُّع في فعل الخير، والفعل المُرضِي”. ونقلت الموسوعة عن الفقيه ابن عبد البر جوانب أخرى من البر في قوله في كتاب ( أداب المجالسة ) ص 112 قالوا : ” البِرُّ في المساعدة، والمؤانسة، والمؤاخاة”.
وهناك مفهوم معتبر للبر قال به سيدنا عيسي بن مريم عليه وعلى نبينا السلام ، الذي أورده القاضي والفقيه أبو الحسن الماوردي في كتابه (أدب الدنيا والدين ) وجاء في صفحة 100 بالنص : روي عن عيسى ابن مريم -على نبينا وعليه السلام-: (البِرُّ ثلاثة: المنطق والنَّظر والصمت، فمن كان منطقه في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبار فقد سها، ومن كان صمته في غير فكر فقد لها).
أما المفهوم الشامل والكامل للبر والذي يغفل عنه كثير من الناس فقد نزله الله سبحانه وتعالى في آية واحدة من القرآن الكريم ، فقال تعالى في الآية 177 من سورة البقرة ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) . تلك الآية العظيمة منهج حياة الإلتزام به يحقق العز والحياة الكريمة في الدنيا ويضمن الفوز في الآخرة .
Aboalaa_n@yahoo.com