أهدانى صديقى الشاعر الكبير والخبير التربوى الدكتور مصطفى رجب العميد السابق لكلية التربية بجامعة سوهاج كتابين خطيرين يمسان العصب الحساس فى بناء هويتنا ومجتمعنا، الأول ” أهداف الجامعة الأمريكية بالقاهرة : دراسة وثائقية منذ النشأة حتى 1980 ” للدكتورة سهير حسين البيلى المدرس بجامعة طنطا، وقد أعدته أساسا ليكون رسالتها للماجستير، والثانى ” المواثيق الدولية وأثرها فى هدم الأسرة ” للدكتورة كاميليا حلمى محمد، وهو رسالتها للدكتوراة فى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة طرابلس فى لبنان.
ونظرا لأهمية ووفرة المعلومات التى وردت فى الكتابين فسوف أكتفى اليوم بعرض للكتاب الأول، على أمل بعرض للثانى الثلاثاء القادم، إن شاء الله وكان فى العمر بقية.
يركز كتاب ” أهداف الجامعة الأمريكية بالقاهرة ” على كشف الدور الذى قامت به الجامعة الأمريكية فى دعم تبعية المجتمع المصرى للمجتمعات الغربية، خاصة أمريكا، من خلال الوثائق التى حددت الأهداف المعلنة كأساس لعمل الجامعة، والممارسا ت المرتبطة بهذه الأهداف وعلاقتها بالتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى مر بها المجتمع المصرى منذ نشأة الجامعة عام 1920 حتى عام 1980.
تقول المؤلفة إن الجامعة الأمريكية أنشئت فى زمن انتشارالتعليم الأجنبى فى مصر، وهى ظاهرة ارتبطت بسياق اجتماعى وتاريخى كان المجتمع المصرى فيه مهيئا داخليا لتقبل الهيمنة الاستعمارية، فقد بدأ الوجود الأجنبى فى مصر مع توجه محمد على إلى الاستعانة بالأجانب لبناء دولته الحديثة، واستتبع ذلك بفتح الأبواب أمام البعثات الدينية التبشيرية ومنحها حرية الدعاية الدينية، ثم تزايد النفوذ الأجنبى فى عهد أبنائه وأحفاده الذين تبنوا مشروع نهضة مصر على النموذج الغربى، وشجعوا الإرساليات التبشيرية إرضاء للدول الأوروبية، ما هيأ مصر للخضوع للهيمنة الغربية.
كما أدت حملة نابليون والاحتلال الانجليزى إلى تغلغل الثقافة الغربية فى المجتمع المصرى، وتحقيق امتيازات هائلة للأجانب، كان أهمها فتح المجال واسعا أمام الإرساليات التبشيرية للتأثير فى عقول الناس من خلال التعليم المدرسى والعمل الاجتماعى فى المستشفيات والملاجئ، رغم اعتراض ومقاومة الكنيسة القبطية المصرية لنشاط هذه الإرساليات، وقد أدى ذلك إلى انتشار مدارس الأرمن والجاليات الإيطالية واليونانية والألمانية ومدارس الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية، ومدارس الإرساليات الأمريكية .
تؤكد الدكتورة سهير البيلى إن أول إرسالية أمريكية وصلت مصرعام 1851، وكان غرضها تحويل الأقباط إلى المذهب البروتستانتى، وتسخير التعليم لخدمة العمل التبشيرى بين المسلمين من خلال التوسع فى مدارس الإرسالية للمرحلتين الابتدائية والثانوية فقط، ثم أدرك المبشرون أن التأثير فى قادة الرأى والجيل الناشئ فى الشرق كله لن يتحقق إلا بالتعليم العالى، فأنشأوا الجامعة الأمريكية فى بيروت، وبعد ذلك اتجهوا للقاهرة حتى تكون لهم جامعة إلى جانب الأزهر.
تشكلت لجنة من مبشرى الإرسالية الأمريكية لبحث المشروع، وقالت فى تقريرها إن مصر مؤهلة لإقامة الجامعة، ثم تشكلت لجنة ثانية عام 1912 درس أعضاؤها أنظمة التعليم فى مصر، وقرروا إنشاء ” الجامعة المسيحية ” لرفع المستوى المتدنى للتعليم العالى المتمثل فى الأزهر والجامعة الأهلية الوليدة، وتصدى عضو الإرسالية تشارلز واطسون لتوفير التمويل والمقر للجامعة، لكن سلطات الاحتلال الانجليزى اعترضت على اسم ” الجامعة المسيحية ” والمكان المقترح بالقرب من الأهرامات، فتم تغيير الإسم إلى ” الجامعة الأمريكية ” وتغيير المكان إلى مقرها المعروف بميدان التحرير، وتولى واطسون رئاسة مجلس الجامعة منذ نشأتها لتكون فى أحضان الإرسالية، لكنه فيما بعد قرراستقلالها عن الإرسالية ليضمن لها حرية الحركة.
وفى يوليو 1919 عقد اجتماع بواشنطن لإقرارالتوجه الدينى للجامعة و تأكيد شخصيتها المسيحية، وتحديد أهدافها فى تقديم التربية المسيحية لشباب مصر والأراضى المجاورة ( وادى النيل)، وخدمة المجتمع المصرى وبعث روح التجديد فيه، وإنشاء ستة أقسام تعليمية ( ليس من بينها بالطبع أقسام للعلوم الطبيعية أو التكنولوجية الحديثة)، ونشر الثقافة الأمريكية، وإعداد النخبة وفقا للمبادئ البروتستانتية، ودراسة الواقع المصرى وتحليل أوضاعه.
وقامت الجامعة فعلا بدور خطير فى هذه المجالات ما مكنها من بسط الهيمنة الثقافية الأمريكية على المجتمع المصرى، وتحقيق تبعيته الثقافية، ومن 1920 حتى 1956 ظلت الوجهة التبشيرية هى محور عمل الجامعة الذى تدور حوله بقية الأهداف، وفى عام 1963 أحدثت الجامعة تغييرا ملحوظا فى أهدافها المعلنة لتساير التحول الذى شهدته مصر بعد ثورة 1952 والتوجه الاشتراكى للدولة، وكان أهم مظاهر هذا التغيير التزام الحذر فى الإفصاح عن المضامين الدينية التنصيرية، لكن رغم كل الاحتياطات التى وضعتها الجامعة فى تلك المرحلة فإن دافعها للحفاظ على إعداد نخبة موالية للغرب والتركيز على التقرب من الطبقة الحاكمة الجديدة جعلها تستثنى أبناء مجلس قيادة الثورة من المجموع المطلوب للقبول، واستطاعت بكل السبل أن تتواءم مع متغيرات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.
وفى عام 1976 اعتمد الرئيس السادات البروتوكول الرسمى للجامعة الذى منحها مساحة واسعة من الحرية تتناسب مع العلاقات الاستراتيجية مع أمريكا، وحدد أهدافها المعلنة فى المسئوليات التعليمية والثقافية وخدمة المجتمع المصرى وإعداد الصفوة.
وتختتم المؤلفة كتابها بالتركيز على أن الدور الذى قامت به الجامعة فى نشر القيم والثقافة الأمريكية خلال مرحلة التأسيس، ومع كل المتغيرات، يؤكد أنها إحدى آليات الهيمنة الأمريكية وفرض التبعية، وقد نجحت مع مؤسسات أخرى فى فرض التغريب على مجتمعنا، وضعضعة هويتنا العربية الإسلامية، وخلق طبقة من الرواد يحملون قيم وثقافة الدولة المسيطرة عالميا .