يحكى أن مصريا فى قديم الزمان تولى منصبًا قياديا، كان الرجل طيلة حياته العملية قبل أن يتولى المنصب متواضعًا بسيطاً يشهد له الجميع بالنزاهة والشرف، كان يسكن فى حى شعبى وسط الناس الغلابة، نعم بل أرجوك ألا تندهش إذا عرفت أن الرجل كان يركب المواصلات العامة ولم يمتلك يوما سيارة وكان يحرص منذ نزوله من الأتوبيس عائدًا من العمل على أن يحيى جميع من يلتقى بهم فى الطريق إلى شقته التى كانت أول بلكونة فى بناية بسيطة.
وفى أول يوم له فى المنصب الجديد وبينما كان الرجل يحلق ذقنه كعادته صباحا استعدادًا للنزول سمع صوت كلاكسات سيارة تحت البلكونة، فنظر يستطلع الأمر حيث وجد سيارة فخمة وسائقها يشير إليه بالتحية فسأله عما يريد فقال له السائق: أنا سائق سعادتك وهذه سيارتك المخصصة لك لتأخذك للعمل وتكون تحت أمرك حتى تعود للبيت مرة أخرى، فسأله الرجل بثقة شديدة: أريد أن أسالك سؤالا.. هل عندما سأترك منصبى ستستمر هذه السيارة أيضا تحت أمرى؟ فقال له السائق وهو يبتسم فى خجل: لا طبعا سيادتك.. هذه السيارة مرتبطة بالمنصب فقال الرجل للسائق: إذن فلا حاجة لى بها وأنا فى المنصب..لذا أرجوك عد من حيث أتيت وأنا سآتى للشغل كما كنت افعل كل يوم.!
هذه ليست حكاية رمزية سردتها لتكون مقدمة لما أريد ان اقوله ولكنها حكاية حقيقية ذكرها لى أحد شهودها عندما كنا نحكى عن السفه غير المعقول الذى ينتاب كل مسئول عند توليه منصبه وما يرتبط بهذا المنصب من جاه ونفوذ وسوء استخدام المال العام.
حكى لى شاهد آخر عن واقعة بطلتها مسئولة فى إحدى شركات هيئة كبرى فى مصر أيضا، كانت تلك السيدة شديدة الجمال مما فتح لها طريق الترقى فى عملها بعيدا عن كفاءتها التى كانت عادية لا تميزها عن أقرانها فى شيء، وفى غضون سنوات قليلة كانت تلك السيدة تتربع على عرش ذلك المكان طبعا مع تربعها على عرش قلوب عدد من أصحاب القرار الذين ساعدوها على الوصول بسرعة، رغم انها لم تكن تقدم لهم سوى ابتسامة رقيقة لكنها كانت كفيلة بفتح كل الابواب المغلقة.
المهم أن هذه السيدة عندما تربعت على الكرسى كانت تتصرف بعنجهية غريبة لا تتناسب حتى مع رقة مظهرها، ولم أصدق نفسى عندما حكى لى ذلك الشاهد انها وضعت حجابا بينها وبين مرؤسيها حيث لا تتكلم معهم مباشرة بل عن طريق سكرتيرها، بل أرجو أن تتحملنى وتكمل قراءة المقال لو قلت لك مثلا أن تلك السيدة عندما كانت تركب سيارة العمل المرسيدس الفخمة طبعا وارادت أن توجه للسائق أى ملحوظة فهى لا تتوجه له بالكلام مباشرة بل تتصل بسكرتيرها فى مكتبه وتقول له ما تريد أن تبلغه للسائق فيقوم السكرتير بدوره بالاتصال بالسائق ليبلغه بالتعليمات حتى لو كانت من عينة اخفض صوت المذياع أو ابحث عن محطة كذا أو حتى اغلاقه أو تشغيله، فيفاجأ السائق بسكرتير الهانم يطلبه على الموبايل ليقول له: وطى الردايو أو هات إذاعة الاغانى مثلا أو اطفيه خالص!
نعم لهذه الدرجة تصورت السيدة انها من عجينة اخرى فوق عجينة البشر الغلابة. ويضحك ذلك الشاهد على النهاية الماساوية لزميل له فى نفس المؤسسة كان يعمل سائقا، ولسوء حظه تم ترشيحه ليسوق بالهانم طوال فترة اجازة سائقها الأصلى. كان السائق الجديد تلقائيًا لا يعرف مجاملات أو كلامًا دبلوماسيًا، وكان أيضا طويلا جدا ، لذا وبمجرد ان جلس خلف الدريسكيون وبمنتهى التلقائية التى يتحدث بها أعاد كرسيه للوراء مسافة كبيرة حتى يمكن ان يجلس مستريحا فكانت النتيجة أنه اقترب جدا من السيدة التى تجلس بالطبع فى الخلف وليس بجواره، وهنا نظر لها وقال بتلقائيته المعروفة: على فين ياخالة؟ كاد ان يغمى على الهانم من هول المفاجأة ولم تقو حتى على الاتصال بسكرتيرها لتبلغه ما حدث وإن كان البعض سمعها بعد أن أفاقت وهى تحكى القصة وتقول : باعتيلى سواق قاعد جنبى ورا ويقولى على فين ياخالة؟! وطبعا هذه كانت نهاية الرجل الذى دفع ثمن عنجهية الهانم قبل أن يدفع ثمن تلقائيته وبراءته الشديدة فى التعامل مع الناس.
سأتوقف عند هذا الحد وكل ما أطلبه منك أن تقارن عزيزى القارئ بين حالة المسئول الأول وبين تلك الهانم وانت تعرف الفارق بين مسئول يرى فى المنصب مسئولية فعلا وبين من يراه عنطزة وتكبرا وتجبرا على الناس وتلك هى المسألة.