لا شك أن الصيام يقود إلى صفاء النفس ، وهي حالة تسمح للصائم بإعمال الفكر . وهنا وجب علينا أن نذكر أنفسنا والقراء الأعزاء إلى عبادة وصفها بعض العلماء بأنها عبادة مهجورة، والبعض الأخر وصفها بانها عبادة غائبة، وفريق ثالث وصفها بأنها عبادة مفقودة، وهي عبادة التفكر.
فمشاغل الحياة ولهث الغالبية وراء الإشباع المادي أدت إلى تراجع عبادة التفكر التي أجمع العلماء على أهميتها لأنه يجدد الإيمان ويزيده . ويرون أن التفكر من أعمال القلب،وأعمال القلب أفضل من أعمال الجوارح . ووصفه بعض العلماء بأنه أشرف العبادات لأن “التفكر عبادة لله – عز وجل – بأسمائه وصفاته وأفعاله، والانقطاع عن غيره. والمداومة على هذا العمل والممارسة عليه تورث ملكة التفكر والاتعاظ ودوام التوجه إليه – تعالى -، وانقطاع النفس عن كل ما يقطعها عنه”.
ويقول الإمام ابن القيم يرحمه الله: “التفكر يكشف حقائق الأمور ويميز مراتبها في الخير والشر، ومعرفة المفضول من الفاضل، والتفكر يزيد الإيمان أكثر مما يزيده العمل”. وجاء في موسوعة النابلسي :” الفكر يأتي قبل الإرادة، والإرادة تأتي قبل العمل، فإذا صح تفكرك استقامت إرادتك، وإذا استقامت إرادتك صح عملك، وإن صح عملك سعدت في الدنيا والآخرة”. ونقلت الموسوعة عن الأمام ابن الجوزي قوله:”التفكر نشاط واسع جداً، أن تعمل فكرك في الشيء، تقلبه على وجوهه، ولكن أعلى مستويات الفكر: أن تتفكر في الجنة والطرق إليها، وأن تفكر في النار وفي طرق اجتنابها، ويليها أربعة أفكار، فكر في مصالح الدنيا، وطرق تحصيلها تحتاج إلى حرفة؛ تدرس، تتاجر، تتوظف، وفكر في مفاسد الدنيا، وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء”.
ولأهمية عبادة الفكر دعانا الله سبحانه وتعالى إلى أعمال الفكر لتدبر اياته في خلقه وفي الكون فقال تعالى في الآية 190 من سورة آل عمران (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ ). وودت كلمة يتفكرون أو تتفكرون 18 مرة في آيات القرأن الكريم .
وذكرت دراسة أصدرتها رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة أن الله ذكر في أكثر من 250 آية من القرآن الكريم صورا مختلفة للكون الذي يحيط بنا في سماواته وأرضه وفي جباله وبحاره وأنهاره، وفي مخلوقاته من الجن والإنس والطير والدواب ،وفي هوائه وسحابه وأمطاره ،وفي أحداثه وتغيراته وفي حاضره وماضيه وفي مشاعره وتسبيحاته. ونبهت الدراسة إلى أن عدد تلك الأيات التي تدعو للفكر والتدبر تفوق عدد الآيات المتحدثة عن الأحكام الفقهية .
ويقول الإمام الغزالي -رحمه الله- في كتاب الإحياء: “كثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار، والنظر والابتكار، ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم، ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته، لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره”.
وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالتفكر وروي عنه قول:” تـفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله” أخرجه أبو الشيخ في العظمة 1/210 و الطبراني و البيهقي في الشعب عن ابن عمر و حسنه السخاوي . وكان أصحابه رضي الله عنهم كذلك،قيل لأم الدرداء: ما كان افضل عمل أبي الدرداء؟ قالت التفكر.
واختم بكلمات قيمة وعميقة توقفت عندها طويلا ، وأدعو القراء الكرام الى التوقف عندها وتدبرها . وجاءت ضمن دراسة مطولة بعنوان ( التفكُّر عبادة ربانية وضرورة دعوية ) نشرتها مجلة البيان العدد 268 ، وتقول : ” التفكر يبدأ بعمليات سهلة بسيطة يلتفت فيها القلب إلى عظيم الآيات المبهرة وعظيم قدرة الله في خَلْقه، وجلاله في فِعْلِه وتدبيره، في عملية يسيرة لا تحتاج في بدايتها لكبير مجاهدة. ترتقي إلى درجات أعلى في معانيها وأعمق في تأثيرها، لا يتمكن من الوصول إليها إلا بنوع من المجاهدة ولا يستطيعها إلا من رُزق حظاً من البصيرة وقِسْطاً من السموِّ الروحي، وفيها يتجاوز المؤمن بنور بصيرته نور بصره، ويتجاوز ظواهر الأشياء إلى حقائقها، ويرى فضل المنْعِم من وراء النعم، ويشاهد عظيم قدرة الله في كل حركة وسكنة في الكون، ويجمع من عجائب آيات الكون والنفس وعظيم حكمة الشرع؛ فينصب من جميعها شواهد على جلال أسماء الله وصفاته وعظيم قدرته وحكمة تقديره “.
Aboalaa_n@yahoo.com