الحركة الوطنية الفلسطينية في أزمة. فالدولة الفلسطينية السيادية المستقلّة التي كانت هدف هذه الحركة منذ أكثر من ثلاثين عاماً قد لا تنشأ أبداً ونهائياً. وقد أصبحت اتفاقيات أوسلو، مجموعة الاتفاقات الفاشلة المصمَّمة لتسهيل تحقيق سلام عن طريق التفاوض، عبئاً ضخماً ومصدر التباس، إذ حجزت المؤسّساتِ الفلسطينية في نظام من التعاون مع عملية مختلّة الوظيفة تسمح بنزع ملكيات شعبها تدريجياً.
وعلى الرغم من التحديات المتزايدة والمتضافرة التي تولّدها الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتعاقبة، والآن مع إدارة ترامب المتعاطفة معها، يبقى الكيان السياسي الفلسطيني ضعيفاً ومُنقسماً جداً ليواجه هذه التحديات ويعيد توجيه نفسه لاتّباع أجندة وطنية جديدة. بالتالي، على الفلسطينيين ترتيب أمورهم الداخلية فوراً.
ويبدأ ذلك عبر التخلّص من الالتباس الذي يلفّ المؤسّسات والتمثيل والعلاقات الفلسطينية نتيجة اتفاقيات أوسلو. فعبر توضيح هذه الأركان الثلاثة، سيصبحون في وضع أفضل بكثير لإعادة تنشيط حركتهم الوطنية كي تخدم مصالحهم الجماعية ولوضع رؤية واضحة جامعة للمستقبل.
نحن أمام شعب مقهور يمارس الفصل العنصرى بحقه، يستشعر التمييز فى تفاصيل حياته، يتعرض للتنكيل المنهجى فى دولة لا تؤمن بالتعدد العرقى والدينى، وتعمل كلما كان ذلك ممكنا على الاستيلاء على أراضيهم، وإخلاء منازلهم بالقوة الجبرية خاصة فى القدس الشرقية ضمن مخطط تهويدها بالكامل وهدم المسجد الأقصى نفسه.
بقوة الغضب المشترك جرت تظاهرات واحتجاجات فى المدن ذات الأغلبية العربية، أو المدن المختلطة. جرت أعمال عنف وترويع ضد كل ما هو عربى، دون أدنى اعتبار لفكرة المواطنة، بدعم من وزير الأمن الداخلى وحماية كاملة من الشرطة الإسرائيلية.
بالنظر إلى حجم الأقلية العربية خلف الجدار (20%) من سكان إسرائيل، فإن سيناريوهات ما أسمته وسائل الإعلام الدولية بـ«الحرب الأهلية» أطلت على المشهد الإسرائيلى المأزوم، أكدت عنصرية الدولة وهشاشة بنيتها الداخلية، كأنها تنتظر مصيرها المحتوم.
رغم التقدم العلمى والاقتصادى فى إسرائيل، إلا أنها هشة فى بنيانها، وتبدو بعد (73) عاما على تأسيسها مأزومة فى وجودها تحاصرها عوامل الانهيار من داخلها.
«نحن فلسطينيون.. لسنا إسرائيليين، هويتنا عربية فلسطينية ومصيرنا مرتبط بأشقائنا فى باقى فلسطين التاريخية».هكذا علت نبرة الغضب الفلسطينى خلف الجدار إلى مستويات غير مسبوقة فى أى مرحلة سابقة على مدى (73) عاما. بداية، على الفلسطينيين السعي لتحقيق الوضوح المؤسّساتي. فلأكثر من ربع قرن، منذ توقيع إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت وتشكيل السلطة الفلسطينية بعد ذلك، أصبحت المؤسّستان الأساسيتان لدى الفلسطينيين، أي منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، مختلطتَين وبات من الصعب التفريق بين دوريهما. وقد عرقل ذلك قدراتهما على العمل بفعالية وعلى خدمة المصالح الوطنية الفلسطينية. وأدّى أيضاً إلى غيابٍ للمساءلة ومركزيةٍ مفرطة في السلطة والتباسٍ حول التمثيل.
وضعُ حدود وأدوار واضحة للمؤسّسات التي تحكم الفلسطينيين وتمثّلهم مسألةٌ غاية في الأهمّية. فبدونها لن يتمكّن الفلسطينيون على الأرجح من اتّخاذ الخطوات اللازمة لإعادة تنشيط حركتهم الوطنية وإعادة تحديد أهدافهم والانتقال بعيداً عن اتفاقيات أوسلو الفاشلة.
والجهاز الأساسي في حركة التحرير الفلسطينية هو منظّمة التحرير الفلسطينية التي أسّستها الجامعة العربية في العام 1964. وبعد عقد من الزمن، اعترفت الجامعة العربية والأمم المتحدة بأنها “الممثّل الشرعي الوحيد” للشعب الفلسطيني،
وهو وصف احتفظت به منذ تلك اللحظة. وتتمحور وظائف منظّمة التحرير الأساسية حول توحيد الفصائل المتباينة في الحركة الوطنية الفلسطينية تحت مظلّة واحدة عبر تأمين تمثيل شامل والعمل على الوصول إلى هدف التحرير الوطني كما حددّتها الهيئة المركزية في منظّمة التحرير الفلسطينية، أي المجلس الوطني الفلسطيني.
وفي ظلّ غياب دولة حقيقية، عمل الدمج بين هذين الكيانين الفلسطينيين المنفصلين، أقلّه لقياداته، على التعويض عن الدولة. ويقلّل هذا الأمر من الحافز لدى النخبة السياسية للتخلّي عنه. لكنّ شبه الدولة هذه، التي تفتقر بالكامل إلى السيادة، تُضعف في الواقع الحركة الوطنية الفلسطينية والحوكمة المحلّية على حدّ سواء.
فهي تضع المصالح الوطنية في مرتبة أدنى من المصالح الضيّقة وتُبعد المجتمع الفلسطيني الأوسع عن عملية صنع القرارات وتؤدّي إلى حوكمة رديئة على الأرض من خلال حجب الشفافية والمساءلة. وهي تجعل انعدام التوازن بينها وبين إسرائيل غير واضح، إذ غالباً ما يتمّ التعاطي مع الكيان الذي تشكّله منظّمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وكأنّه حكومة دولة مع أنّه يبقى في موقع خضوع شبه كامل ويفاوض من هذا الموقع.
وفيما تمّ التداول بنشاط ولسنوات في مسألة حلّ السلطة الفلسطينية، ما زال لهذه المؤسّسة دور مهم تؤدّيه، أقلّه على المدى القصير. فالسلطة الفلسطينية مسؤولة عن إدارة حياة الفلسطينيين اليومية في الأراضي المحتلة. وحلّ السلطة الفلسطينية بالكامل خطير للغاية لأنّه من غير الأكيد ما إذا كانت إسرائيل ستُعيد الأمور إلى نصابها أو متى ستقوم بذلك وكيف.
وحتّى إنهاء التنسيق مع إسرائيل، وهو أمر طالبت اللجنة المركزية لمنظّمة التحرير الفلسطينية الهيئةَ التنفيذية في المنظّمة مراراً بتنفيذه منذ العام 2015 على الأقلّ، مسألةٌ تشوبها الصعوبات والتعقيدات.
وفيما تُعتبر إعادة تقييم العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل غاية في الأهمّية (راجع الركن الثالث: الوضوح العلائقي)، ينبغي أن يكون التركيز في الوقت الراهن على زيادة الوضوح في المؤسّسات السياسية المُنشأة أصلاً. ويبدأ هذا الأمر من خلال فصل منظّمة التحرير الفلسطينية عن السلطة الفلسطينية، بدءاً من قيادتيهما. فينبغي منع المسؤولين ضمن أيّ من المنظّمتَين من تبوّؤ منصب قيادي في المنظّمة الأخرى. وينبغي أن تساعد عملية صنع القرار المنفصلة على توضيح أدوار الهيئتين ومسؤولياتهما. وبشكل مثالي، يجدر بمنظّمة التحرير الفلسطينية أن تتّخذ مقرّاً لها خارج الأراضي المحتلّة، حيث تعجز إسرائيل عن الضغط مباشرة على كبار مسؤوليها أو عن استمالتهم، مع إبقاء مكاتب لها في الأراضي المحتلّة لغايات تنسيقية. كذلك، ينبغي إبراز الأدوار المتمايزة لكلّ هيئة من الهيئتين وتعيين حدودها بوضوح.
وينبغي أن تستعيد منظّمة التحرير الفلسطينية الأسبقية في مجال الدبلوماسية والمشروع الوطني، مع وضع الحدود لحوكمة السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة. فعلى الفلسطينيين وشركائهم الدوليين أن يعرفوا ما الواجبات التي على كلّ هيئة القيام بها، ومساءلة المسؤولين لنجاحاتهم وإخفاقاتهم.
وينبغي إبراز الأدوار المتمايزة لكلّ هيئة من الهيئتين وتعيين حدودها بوضوح. وينبغي أن تستعيد منظّمة التحرير الفلسطينية الأسبقية في مجال الدبلوماسية والمشروع الوطني، مع وضع الحدود لحوكمة السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلّة.
وعلى الفلسطينيين أيضاً إصلاح هاتين المؤسّستين لجعلهما أكثر تمثيلاً من خلال الانتخابات أو، في حالة منظّمة التحرير الفلسطينية، من خلال عملية أخرى لتأسيس قيادة شرعية تمثيلية. معاً ينبغي أن تكون هاتان الخطوتان كافيتين لترميم الكيان السياسي الفلسطيني ولمنحه شرعية وقوّة متجدّدتين.
كذلك، يجدر بالفلسطينيين إعادة تقييم علاقتهم بإسرائيل نظراً إلى فشل اتفاقيات أوسلو وتحصين الاحتلال العسكري الإسرائيلي وعزمه على الاستمرار باستيطان الضفّة الغربية وتغيير وضع القدس ومحاصرة قطاع غزّة. وقد أربكت دينامية الشريك-المحتلّ التي نتجت عن أوسلو الشعب الفلسطيني وحلفاءه في المجتمع الدولي.
وينبغي على الفلسطينيين العثور على سبل لعدم التعاون، ولا سيّما من خلال الحدّ من الاعتماد الاقتصادي على إسرائيل. ويمكنهم إعادة تقييم طبيعة النظام الإسرائيلي ومكانهم فيه وربّما إعادة تحديده ليتغيّر من احتلال عسكريّ إلى دولة فصل عنصريّ. ويجدر أن يترافق ذلك بمداولات جدّية مع استراتيجية واضحة لطريقة مواجهة النظام على الأرض وفي المسرح الدولي.
عندما تفشل أيّ حركة في تحقيق أهدافها الأساسية، عليها أن تسأل نفسها أسئلة عميقة حول الخطوات التالية التي عليها اتّخاذها. ولكي يتسنّى للفلسطينيين طرح هذه الأسئلة حتّى، عليهم أوّلاً ترتيب أمورهم الداخلية والتخلّص من الالتباس المتراكم حول مؤسّساتهم وحول تمثيلهم وحول علاقاتهم. عبر توضيح هذه الأركان الثلاثة، سيصبحون في وضع أفضل بكثير لإعادة تنشيط حركتهم الوطنية ومواجهة التحديات والعمل على تحقيق أهدافهم للمستقبل.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان