ولذلك يجد الإنسان نفسه أمام مراجعات كثيرة في الغرب بشأن انتشار الفساد وغياب العدالة وقبول المواطن العادي للسياسي الفاسد وذلك بسبب هذا الفصل التعسفي بين الأخلاق والسياسة. وفى تاريخنا العربي أبرز المؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون كيف أن الدول قامت على العصبية والغلبة وليس على مقدار ممارسة المبادئ الأخلاقية في الحكم.
إذن نحن أمام موضوع متجذر في التاريخ وله انعكاسات سلبية على الحاضر حتى في المجتمعات المتقدمة في أنظمة حكمها. لكن في الوقت الذى توجد في المجتمعات المتقدمة تلك فلسفتان، الفلسفة الأخلاقية والفلسفة السياسية، تتحاوران حول هذا الموضوع، فإن هذا الموضوع يبقى عندنا مطروحا على استحياء. ولذلك تبقى الكثير من الأسئلة بحاجة لإجابة.
مثلا، إلى أي مدى يمكن السماح لأن تصبح الغاية تبرر الوسيلة في الحياة العامة؟ إذ إن هذا السؤال توجب طرحه ممارسات يومية غير أخلاقية في الحياة العربية. فممارسة السجن التعسفي، ثم تعريض السجين للتعذيب المبرمج، هل يمكن أن تبرره غاية استتباب الأمن ومحاربة الإرهاب؟ ألا توجد بدائل لتلك الوسائل البشعة تنسجم مع القيم الأخلاقية الإنسانية ومع القيم الحقوقية؟
مثلا آخر، هل أن غاية نبيلة من مثل التنمية الاقتصادية تبرر تدمير البيئة وبالتالي تحرم الأجيال القادمة من العيش في بيئة متوازنة وصحية؟
مثال آخر، هل أنه عندما يسرق أحدهم فردا آخر نعتبر السرقة موضوعا أخلاقيا بينما إذا شرع نظام حكم أو برلمان قانونا يؤدى إلى سرقة الملايين من الناس وافقارهم فإن ذلك يعتبر قضية سياسية لا دخل لها بالقيم الأخلاقية؟
تزدهر المراوغة السياسية في عصر الفوضى. لا مكان للمصارحة في أجواء الفراغ السياسي، ومع غياب واستحالة التسويات والحلول السياسية للأزمات. وللحروب. وللعنف الاجتماعي والديني، فأنت ضحية للدول. للسياسة. للنظام. والتنظيم. الكل يراوغ لتغطية العجز عن الحل. لتأجيله. لعرقلته. أو حتى للإمعان في مبالغة التعبير عن «نجاح» الدبلوماسية في التسوية.
«التقية» أداة المراوغة في المذهب الإيراني، لكي يقول الأضعف ما يشاء، لتجنب غضب الأقوى. فكانت التقية ولا تزال تعبيرا عن الخوف الجماعي من تزمت المؤسسة الدينية. أو لتجنب سيف العنف الديني. والقوة الغاشمة للاحتكار السياسي للسلطة.
فن المراوغة الأميركية المتراوح بين «دعم» الجهد الحربي الخليجي، والمجاملة «النووية» لإيران، ربما يقتضي تعطيل عبور سعودي إلى إقليم صعدة، لإنهاء زعامة العميل عبد الملك الحوثي التي عبثت بأمن وسلام اليمن وتعبث بأمن السعودية، لصالح إيران. لماذا الإغاثة الأميركية لليمن. ولوقف الحرب فيها، من دون إغاثة أميركا لسوريا. والعراق. ولوقف الحرب فيهما؟!.
امريكا تستخدم بلاغة لغته السياسية، لإقناعهم بأن لا داعي لقلقهم. وليس هناك تهديد لأمنهم ووطنهم! إذا امتلكت إيران القنبلة المخيفة، بعد مرور عشر سنوات على الاتفاق المهزوز معها! هل يعتذر لهم عن عدم ضمهم إلى الحلف الغربي المفاوض لإيران؟ أو ربما يقنعهم بأن لا حاجة لرادع عربي نووي. يكفي الانضواء تحت مظلة حلف الحماية الأميركية، كما تقترح مراوغة وزيره كيري الدبلوماسية.
في فوضى المراوغة في الحرب الباردة بين أوباما الديمقراطية وعشيرة الكونغرس، يواصل طيران أوباما تشكيل المظلة الجوية لميليشيات إيران العراقية التي تقاتل «داعش» في معاقل السنة في العراق، رافعة صور خامنئي والخميني وقاسم سليماني على دباباتها ومدافعها.
أما الكونغرس فقد ألزم إدارة أوباما بعرض الاتفاق النووي مع إيران على مجلسيه. ووصلت حرب المراوغة إلى حد اعتبار العراق ثلاثة كيانات منفصلة شيعية. كردية. سنية، والتعامل معها على هذا الأساس في التسليح. ثارت ثائرة النظام الشيعي في العراق. واعتبر في مراوغته قرار الكونغرس، بمثابة تقسيم للعراق. وتهديد لتعامله مع إيران.
في عصر ديمقراطية الإعلام الإلكتروني التي أتاحت لأشباه الأميين والمتعلمين، ممارسة الابتذال الخطير للفكر. والوعي. وحرية التعبير، تنشأ علاقة وثيقة بين فن المراوغة السياسية وفن الحداثة الإعلامية. كانت وسائل الإبلاغ والتبليغ معدومة، باستثناء المسجد والكنيسة اللذين استخدما، كأداة لإعلام «المؤمنين»، بقرار السلطان السياسي. ثم الطلب منهم الدعاء له بالنجاح والفلاح، من دون أي حوار. أو تحليل. أو مناقشة لصوابية القرار.
حلف المراوغة والإعلام انتزع المبادرة من المؤسسات الديمقراطية والفكرية. وهوى إلى فوضى الشارع الشعبي. لم يعتذر بشار لأطفال درعا ليختصر المأساة السورية. أوكل إلى أجهزته المخابراتية (أدوات العنف والمراوغة) وإلى إعلامه المبرمج والموجه، تسييس الشارع لصالح تنظيم العنف الديني (القاعدة. النصرة. داعش)، ليسهل عليه اتهام شعبه بالتزمت. وقصفه وتدمير مدنه. وقراه، بالبراميل المتفجرة.
وهكذا نشأ حلف النظام والتنظيم، لاستغلال المراوغة والإعلام، في المخاطبة الدعائية لجماهير «المؤمنين» بصوابية تسييس الدين: النظام يدعي مكافحة العنف الديني، من دون أن يقدم مبادرة للحل السياسي، ويرسل عملاء المخابرات الذين يديرون مكاتب الوزراء، كأعضاء في وفد وليد المعلم الرسمي في محادثات جنيف.
فيما التنظيم المهيمن بالسلاح على الحرب الميدانية جرد المعارضة السياسية من أي إسناد، يمكنها من انتزاع اعتراف رسمي، بضرورة تقاسم السلطة. يمارس المبعوث الدولي دي مستورا المراوغة في مفاوضات «مستورة» وغامضة في جنيف، من دون وجود إرادة دولية لفرض حل في سوريا. بل يستدعي إيران للمشاركة مع فصائل سورية، في رسم أفق المستقبل السوري، من دون الرجوع إلى الدول العربية!
وكأنه بذلك يصر على منح إيران اعترافا دوليا «مستورا» بحق التسلل والهيمنة على العالم العربي! استخدام الخطاب الإخواني جائز عند أردوغان بلا حساسية وهو قادر على الانتقال بين الخطابين مهما كانا في حالة تناقض كيفما تسير وكلما دعت الحاجة من دون تردد، ومن دون أي خجل أن يبدو متناقضاً أو انتهازياً. الجميع في لعبة السياسة يمكن أن يتبدلوا بين الملائكة والشياطين حسب الطلب وعند الرغبة وفقاً للمصالح الضيقة للرجل.
ومبعث اندهاشي أن تهمة الكذب في مجال السياسة تبدو بالغة التفاهة وهذا الشعار الذى يعكس إحدى قيم الديموقراطية الحقيقية وهى الحرص على التوافق السياسي بين كافة أطراف العملية السياسية، والوصول في حالة التنازع إلى الحلول الوسط سعياً وراء إنجاح التجربة الديموقراطية. غير أن جماعة الإخوان المسلمين يثبت أنها لا يعنيها التوافق السياسي ويظهر ذلك في تعنتها ورفضها للمعايير المتوازنة
ومما لا شك فيه أن الحرص على الهيمنة الإخوانية الكاملة على كل مؤسسات الدولة المصرية أصاب قـــادة الجماعة بالجمود الإدراكي الذى جعلهم لا يدركون الانخفاض الشديد في مصداقيتهم السياسية في أعين الجماهير المصرية.
المراوغة السياسية القطرية تمسك بالنفوذ، والمصالح، وتكالب على السلطة، دون مراعاة لأي مصلحة عامة، أو خاصة معتبرة، وإنما من حق تلك السياسة الموهومة في أن تمارس كل فنون الخداع؛ لكى تصل إلى أهدافها المشبوهة، ولو كان ذلك على أشلاء خصومها، وهو ما يؤكّده جون جي ميرشايمر – أحد أهم المفكرين الواقعيين على صعيد السياسة الخارجية، ومن أكثرهم تأثيراً في العلاقات الدولية في العالم -، في كتابه: لماذا يكذب القادة، «الحقيقة حول الكذب في السياسة الدولية»، بأن الكذب بين الدول – في كثير من الأحيان – يكون لأسباب استراتيجية، والتي يطلق عليها في أحد فصوله باستراتيجية التستر، أو التكتم باستخدام دبلوماسية الرياء.
استهلاك الوقت، وفن الخداع، والتسويف، والمماطلة شعار السياسي القطري المراوغ؛ من أجل الوصول إلى الهدف، وتحقيق الغاية، – سواء – بالمنطقة، أو على المستوى العالمي، فما بالك إذا كانت الدولة التي أخذت دوراً أكبر من حجمها؛ بسبب تواطؤ الغرب معها! – فعندئذ – سيكون الفعل ممجوجاً، وسيعكس انخفاضاً في القيم الإنسانية. ومع كل ما سبق، فلن نفقد الأمل في غد أفضل، بعيداً عن المرواغة السياسية القطرية، وحتى لا تكون هي القاعدة في التعامل بين تلك دول المنطقة؛ فيستشري الكذب، والتلفيق، ويعم التوتر، وتنعدم الثقة، ويسود الفشل، والإحباط، والعنف، والإرهاب
امتناع إثيوبيا عن التوقيع على اتفاق واشنطن يؤكد أنها كانت تدير المفاوضات منذ انطلاقها بنوع من سوء النية، استنادًا لنظرية “هارمون” التي تؤكد السيادة المطلقة للدولة على الأجزاء التي تقع في أراضيها من الأنهار الدولية، والتي تعد من النظريات البالية في القانون الدولي.
وبالرغم من الضغوط المبذولة لعودة إثيوبيا لمائدة التفاوض، فإن أغلب المعطيات ترجح عدم عودتها إلى المفاوضات قبل إجراء الانتخابات العامة، التي ينتظر أن يؤجلها البرلمان بسبب أزمة فيروس كورونا، والتي اضطرت الحكومة لإعلان حالة الطوارئ بالبلاد لخمسة أشهر مقبلة، ومن أهم هذه المعطيات:
1- سعي إثيوبيا لمخاطبة الدوائر السياسية الخارجية والرأي العام العالمي والإقليمي، لقطع الطريق أمام التحركات المصرية، حيث إنها نجحت في الضغط على السودان والصومال لأجل التحفظ على قرار الجامعة العربية بالتضامن مع مصر بعد انسحاب إثيوبيا من المفاوضات، وهو القرار الذي وصفته الخارجية الإثيوبية بأنه “دعم أعمى” من الجامعة العربية لمصر. كما أوفدت أديس أبابا مسئوليها للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الإفريقية لعرض الموقف الإثيوبي من المفاوضات.
2- تصريح رئيس الأركان الإثيوبي الفريق أول “آدم محمد”، في 12 مارس 2020، بأن جيش بلاده مستعد للتصدي لأي هجوم عسكري يستهدف سد النهضة، والرد على مصدر الهجمات بالمثل. وقد جاءت هذه التصريحات خلال زيارته للسد بصحبة قادة الجيش الإثيوبي.
3- زيارة وفد من حزب الرخاء الحاكم إلى سد النهضة ومتابعة أعمال البناء، وتدشين حملة لجمع الأموال لاستكمال مشروع السد. وتواصل الحملات الإعلامية من جانب الإعلام الحكومي الإثيوبي ضد مصر.
4- تأكيد الحكومة الإثيوبية شروعها في الملء الأول لبحيرة السد في يوليو 2020، توطئة لبدء التوليد التجريبي للكهرباء.
5- تنصل إثيوبيا من معاهدة مايو 1902، التي وقّعها الإمبراطور “منليك الثاني” (ولم تكن الحبشة آنذاك مستعمرة) مع بريطانيا (نيابة عن مصر والسودان)، بحجة عدم التصديق عليها، وذلك ردًّا على لجوء مصر إلى التقدم بشكوى ضد إثيوبيا أمام مجلس الأمن الدولي في مايو 2020، تتهم أديس أبابا بخرق القانون الدولي، وتهديد السلم والأمن الدوليين.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان