تعد مصر واحدة من الدول التى تحفل بوجود العديد من مؤسسات مجتمع مدنى التي تعمل فى كافة الميادين المختلفة. هذه المؤسسات تشكلت خلال سنوات عديدة وتلعب دور هام فى المجال العام. ويرجع وجود هذه المؤسسات فى مصر – بالصورة المتعارف عليها حالياً- إلى القرن التاسع عشر فى عهد الدولة الحديثة التى أسستها أسرة محمد على.
يعتبّر مفهوم المجتمع المدني عمومًا عن هموم وظواهر مختلفة هي تاريخ تطور الفكر السياسي، بحيث ترتبط الدلالات بالمدلولات في سياق تاريخي معين. وقد قصد به توماس هوبز في منتصف القرن السابع عشر: المجتمع المنظم سياسيًا عن طريق الدولة القائمة على فكرة التعاقد. وبالنسبة إلى جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، فإن المجتمع المدني هو المجتمع صاحب السيادة. أما مونتسكو فقد عبر عن المجتمع المدني في سياق بحثه عن البنى الأرستقراطية الوسيطة الشرعية، والمعترف بها من السلطة، والقائمة بين الحاكمين والمحكومين. وجاء دو تو كفيل ليشدّد على دور المنظمات المدنية الفاعلة في نطاق الدولة بالمعنى الضيق. بينما حاول غرامشي القفز على التعريف الماركسي للمجتمع المدني كمجتمع برجوازي وجعله النطاق الذي تتم فيه الهيمنة الثقافية، خلافًا لعملية السيطرة التي تميز المجال السياسي.
إن الحق فى حرية التجمع والتنظيم من الحقوق الأساسية للفرد فى أى مجتمع وهو ما أكدت عليه كافة المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وقد نصت معظم الوثائق على أن لكل شخص الحق فى تكوين جمعيات أو الاشتراك فيها بشرط أن تكون سلمية، ومن هنا يستلزم على الدولة توفير المناخ اللازم الذى يكفل هذا الحق لجميع أفرادها. يبرز دور المؤسسات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التطوعية التى تعمل فى المجال العام والتى تكون مايسمى ب(المجتمع المدنى) فى ظل تفعيل هذا الحق، وتمثل هذه المؤسسات حلقة الوصل بين الأفراد والدولة.
إن ظاهرة وجود مؤسسات وسيطة من الظواهر القديمة التى وجدت منذ نشأة المجتمعات البشرية وقد تم تناولها بصورها المختلفة فى العديد من الدراسات. أخذت هذه المؤسسات صور عدة من منظمات حقوقية وجمعيات اهلية وغيرها، وزاد الأهتمام بها فى الأونة الأخيرة بعد أن برز دورها فى التحولات السياسية التى تشهدها البلاد المختلفة. يتوقف فاعلية هذه المنظمات داخل إطار الدولة على عدة عوامل أبرازها القيود التى تفرضها البيئة السياسية عليها، والإطار القانونى التى تعمل من خلاله تلك المنظمات، والأدوار والأنشطة التى تمارسها تلك المنظمات داخل إطار الدولة.
يظهر دور منظمات المجتمع المدنى بصورة واضحة فى الدول الديمقراطية حيث تجد المساحة الكافية لممارسة أنشطاتها المختلفة والتى ترتبط بالمجال العام ، وتلعب هذه الأنشطة دور مهم فى تحديد العلاقة بين هذه المنظمات والدولة (السلطة السياسية)، فقد تكون العلاقة تعاونية بينها وبين الدولة أو أن الدولة تعمل على قمعها والحد من أنشطتها بالتالى هناك علاقة جدلية بين المجتمع المدنى والدولة
لقد لجأ الباحثون لتعريف منظمات المجتمع المدني بأنها: مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح، والإدارة السليمة للتنوع والاختلاف.
ومن خصائص العمل التطوعي أن يقوم على تعاون الأفراد في سبيل تلبية احتياجات مجتمعهم، ما يعني أنه يأتي بناءً على فهم احتياجات المجتمع. ويهدف إلى تخفيف معاناة الناس المتباينة، وبذلك فهو تجسيد عملي لفكرة التكافل الاجتماعي بوصفه يمثل مجموعة من الأعمال الخيرية التي يقوم بها بعض الأشخاص الذين يتحسسون آلام الناس وحاجاتهم، الأمر الذي يدفعهم لتقديم التبرع بالجهد والوقت والمال لخدمة هؤلاء الناس بهدف تحقيق الخير والمنفعة لهم.
وتتكون منظمات المجتمع المدني من الهيئات التي تسمى المؤسسات الثانوية مثل: الجمعيات الأهلية، والنقابات المهنية والعمالية، والمؤسسات الخيرية، وجمعيات حقوق الإنسان، وجمعيات حقوق المرأة، والنوادي الرياضية، وجمعيات حماية المستهلك، وما شابهها من المؤسسات التطوعية.
وبرغم اختلاف منظمات المجتمع المدني في تسمياتها وأشكالها، إلا أنها تتقاسم مجموعة من الخصائص الأساسية مثل كونها منظمات خاصة، وغير ربحية، ومستقلة، وتطوعية بحيث يملك الأفراد الحرية بالانضمام إليها أو دعمها.
تتجلى مساهمة مؤسسات المجتمع المدني في تنمية المجتمع من خلال ثلاثة جوانب هي الجانب الاجتماعي، والجانب الاقتصادي، وجانب تنموي متنوع..
فعلى صعيد الجانب الاجتماعي، تعمل مؤسسات المجتمع المدني على حرية التجمع مما يتيح حرية التعبير، والتي يمكن من خلالها تحقيق مطالب الجماهير. كما أنها تتيح التجمع للأفراد رغم تباين الفوارق القائمة بينهم، وهذا بدوره يدعم التسامح ويساند التعددية سواء داخل المجتمع نفسه أو بين المجتمعات في حالة المؤسسات الدولية. أيضًا وجود تلك المؤسسات يعدّ من خصائص المجتمعات المسالمة والمستقرة التي يسود فيها الاحترام الراسخ لسيادة القانون. أخيرًا، فإن تقديم الدعم المالي لتلك المؤسسات يعني زيادة التواصل بين مختلف طبقات المجتمع، وتفهمًا وإيثارًا من قبل الأغنياء لاحتياجات الفقراء، وهذا بدوره يعمل على توحيد صفوف المجتمع ونشر التلاحم والتآزر فيما بينهم.
وفيما يخص الجانب الاقتصادي، فتتجلى مساهمة مؤسسات المجتمع المدني من خلال عدة أبعاد، أبرزها: أنها تسهم في مكافحة ظاهرة الفقر من خلال تقديم المساعدات المباشرة أو التنمية والخدمات، وبذلك تقضي على أحد أبرز أسباب الجريمة، كما أن تلك الخطوة تساعد على تخفيف الفجوة بين الطبقات. أيضًا فإن إعادة توزيع الدخل بين الفقراء والأغنياء يزيد من رفاهية المجتمع ككل. كذلك فإن المصروفات السنوية لهذه المؤسسات تؤدي إلى إنعاش الاقتصاد وزيادة فرص العمل. أضف إلى ذلك أن الانخراط في العمل التطوعي يعد بمثابة استثمار لأوقات الفراغ مما يحد من الانحراف وراء الأهواء.
ومن جانب ثالث، تتمحور مساهمة مؤسسات المجتمع المدني في العديد من المجالات التنموية الأخرى، والتي من بينها: توعية المواطنين بأهمية المحافظة على البيئة وحمايتها من التلوث، وتثقيف أفراد المجتمع من خلال تنظيم الندوات وورش العمل والندوات، ناهيك عن كون العمل الاجتماعي يمثل فضاءً رحبًا ليمارس أفراد المجتمع من خلاله ولاءهم وانتماءهم لمجتمعاتهم، كما يمثل أيضًا مجالًا مهمًا لصقل مهارات الأفراد وبناء قدراتهم. أضف إلى ما سبق أن العمل التطوعي يؤدي إلى راحة النفس والضمير، وينمي الشعور بالاعتزاز والفخر بالثقة بالنفس عند من يتطوع؛ إذ أن التطوع يقوي الرغبة بالحياة عند الأفراد ويفعمهم بالأمل والثقة بالمستقبل حتى أنه يمكن استخدام العمل التطوعي لمعالجة الأفراد المصابين بالاكتئاب والضيق النفسي والملل.
لاحظنا مما سبق أثر تلك المؤسسات الناجع في المنظومة الأخلاقية الفردية والاجتماعية على حد سواء، ومدى قدرتها على الرقي بسلوكيات الأفراد، سواء على المستوى الفردي والنفسي أو الاجتماعي والوطني. ولتفعيل دور تلك المؤسسات، نقترح جملة من التوصيات للوصول بمستوى تلك المؤسسات إلى مستوى الطموح، وهي: الاعتماد على المرجعية الإسلامية بدلًا من الاعتماد على الخطاب الغربي وحده (الديمقراطية/ المواطنة/ الحزبية…). اختيار الشخصيات الإدارية المؤهلة لقيادة تلك المؤسسات سيقوي من أدائها. وضع خطط تنموية شاملة تعكس مدى النشاط والأهداف التي يمكن تحقيقها أو تحقيق تطوير نوعي في نشاطاتها. تمركز برامج تلك المؤسسات على المفهوم التنموي بدلًا من أنه الأقرب إلى الإحسان. الفصل بين تلك المؤسسات والأحزاب؛ إذ تفقد مؤسسات المجتمع المدني مساحة واسعة من استقلالية القرار الإداري والمالي، وتبقى أسيرة في رسالتها لرؤية الحزب. تعزيز ثقافة التطوع من خلال وسائل الإعلام والمناهج الدراسية والمؤسسات الدينية. ومنح هذه المؤسسات حاجتها من الأراضي لإقامة المشروعات الخيرية عليها، وشمولها بالإعانة الحكومية، وتقديم إعفاءات فواتير المياه والكهرباء والضرائب ودعمها في مجال الكتب والمعدات وغيرها.. إن تلك المؤسسات إذا تلقت الدعم الكافي وحققت وظائفها وأهدافها يكون المجتمع قد حصل على قناة جديدة وهامة في التكوين الثقافي إلى جانب القنوات التقليدية المعروفة، شريطة أن يكون البعد الوطني والأخلاقي الإنساني خلفية مهمة لما تقدمه تلك المؤسسات للمواطنين.
إن المجتمع المدني في مصر يأخذ أشكال متعددة؛ حيث هناك الجمعيات الأهلية, والنقابات المهنية, والنقابات العمالية, ونادي القضاة, وجمعيات رجال الأعمال, والغرف التجارية والصناعية, والحركات الاجتماعية. وفيما يلي سوف يتم تناول أبرز مكونات المجتمع المدني المصري التي تتمثل في:
الجمعيات الأهلية :
هي عبارة عن تجمعات منظمة تقوم علي العمل التطوعي ولا تهدف إلي تحقيق الربح وتعمل في المجالات الاجتماعية لتحقيق النفع العام، وتعتبر الجمعيات الأهلية حلقة الوصل بين الفرد والدولة حيث تعمل على تجميع الجهود الفردية من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية, ومن أبرز سمات الجمعيات الأهلية أن لها ملامح مؤسسية متمثلة في وجود لوائح منظمة لعملها والخصوصية فيها، كما أنها تقوم علي التطوع ولا تهدف إلي تحقيق ربح وتتبني أهداف اجتماعية واقتصادية, كما تتبع قانون ينظم تكوينها وتأسيسها.
وتوجد ثلاث أشكال رئيسية للجمعيات الأهلية:
أ- جمعيات خيرية تسعي إلي توفير الخدمات الاجتماعية للمحتاجين مثل محو الأمية وإنشاء مدارس ومستشفيات تقدم خدمات طبية مجانية وخدمات ثقافية, ومعظم هذه الجمعيات ذات طابع ديني إسلامي ومسيحي .
ب- الجمعيات التنموية هي جمعيات تعمل في مجال التنمية حيث تعمل علي نصرة الفئات المهمشة وتساعد في كسب القدرات والخبرة والاعتماد علي النفس، من أهم الأدوار التنموية التي تقوم بها مكافحة الفقر, وتطوير التعليم, والخدمات الصحية والدينية.
ت- الجمعيات الدفاعية والحقوقية تسعي هذه الجمعيات للدفاع عن قضايا معينة مثل: حقوق الإنسان وحماية البيئة والدفاع عن المرأة وقد ظهرت هذه الجمعيات حديثاً، حيث تم تأسيس أول جمعية في مصر عام 1975م وهي الجمعية المصرية لحقوق الإنسان, وتعد هذه الجمعيات أكثر الجمعيات تأثيراً علي السياسات الحكومية وتواصلاً مع العالم الخارجي، و يبرز دور هذه الجمعيات في الإشراف علي الانتخابات ورصد الأحداث التي تقع خلالها وتصدر تقارير عنها، كما أنها تقوم بمراقبة أعمال الحكومة وتصدر تقارير عنها. من أهم المنظمات الحقوقية والدفاعية الموجودة في مصر: الجمعية المصرية لحقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان, ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان, مؤسسة قضايا المرأة المصرية, المركز المصري لحقوق المرأة.
النقابات المهنية:
تعد النقابات المهنية مكون أساسي ومهم من مكونات المجتمع المدني وذلك نتيجة الأدوار التي تستطيع القيام بها؛ حيث أنها تلعب دورًا كبيرًا في العملية الإنتاجية والخدمية, وتمتاز عضويتها بأنها تضم الشرائح الأكثر تعليمًا, هذا إلي جانب أنها تستطيع أن تمارس دورًا سياسيًا من خلال التأثير علي الدولة والضغط عليها لتحقيق المطالب بوسائل مختلفة أهمها الإضراب العام, إلي جانب قدرتها علي مناقشة مختلف القضايا الداخلية والخارجية
وان يكون لها اتصالات بمنظمات علي الصعيد الدولي. وفي مصر النقابات المهنية تمارس وظيفتين أساسيتين وهما الدفاع عن حقوق أصحاب المهنة, وتطوير المهنة والعمل علي حمايتها, ومع أتباع النظام السياسي للتعددية السياسية زادت عدد النقابات المهنية في مصر بشكل واضح وأصبحت تمارس دورًا سياسيًا. وكانت بداية ظهور النقابات المهنية في مصر مع تشكيل نقابة المحاميين أمام المحاكم المختلطة عام 1876م, ثم نقابة المحاميين أمام المحاكم الأهلية عام 1912م, ثم نقابة المحاميين أمام المحاكم الشرعية عام 1916م, ويوجد في مصر حاليًا 25 نقابة مهنية من أبرزهم: نقابة الصحفيين (1941م), ونقابة المهندسين (1946م), ونقابة الأطباء (1949م) ونقابة الصيادلة (1949م).
النقابات العمالية:
إن الجذور التاريخية للنقابات العمالية تعود إلي مطلع القرن العشرين عندما تم تأسيس أول نقابة عمالية وهي نقابة عمال لف السجائر عام 1900م, وبلغ عدد النقابات العمالية في مصر عام 1931م حوالي 38 نقابة عمالية ولكن تلك النقابات لم تحصل علي شرعيتها إلا بعد صدور قانون رقم 85 لعام 1942م, ويوجد حاليًا في مصر23 نقابة عمالية. والتنظيم النقابي في مصر يأخذ الشكل الهرمي الذي علي قمته يوجد الاتحاد العام لنقابات عمال مصر الذي تأسس في يناير 1957م, وفي قاعدة الهرم يوجد اللجان النقابية للمنشآت المختلفة, وبين تلك اللجان والاتحاد العام يوجد 23 نقابة عمالية. وهذا التنظيم النقابي يعمل وفق مبدأ الواحدية والمركزية؛ حيث أن يوجد لجنة واحدة ونقابة واحدة لكل منشأة وصناعة إلي جانب وجود اتحاد عام واحد لنقابات العمال.
وإذا نظرنا إلي الدور الذي يمارسه التنظيم النقابي العمالي فسوف نجد أن دور تلك النقابات العمالية في الدفاع عن مصالح العمال يتسم بالضعف, وهذا ما كان يدفع العمال إلي تجاوز التنظيم النقابي وممارسة الاحتجاجات والإضرابات والمظاهرات وتنظيم أنفسهم في حركة عمالية من أجل توصيل مطالبهم المختلفة إلي الحكومة, وهذا الأمر الذي جعل التنظيم النقابي يتهم تلك الحركات بالتآمر. أما بالنسبة إلي دورها في التأثير علي القوانين والسياسيات ذات الصلة بالعمال فسوف نجد أن هذا الدور لم يتخطى أكثر من إبداء الرأي والمقترحات للحكومة.
أهم المراجع
1- حميد محمد القطامي، تجربة العمل التطوعي في دولة الإمارات العربية المتحدة، ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر الدولي السابع: إدارة المؤسسات الأهلية والتطوعية في المجتمعات المعاصرة، 17- 18 ديسمبر 2002م، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة.
2- عزمي بشارة، المجتمع المدني، دراسة نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط6، 2012م.
3- مصطفى محمود عبد السلام، دور العمل التطوعي في تنمية المجتمع: مقترحات لتطويره في المعالجة النفسية والصحية والسلوكية، المجلة العربية، ع325، أبريل 2004م.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان