لمواجهة احتكار الهوية اليهودية من قبل الصهيونية، ومصادرتها لأصواتهم، اتخذت المنظمات المناهضة للصهيونية، أو تلك غير الصهيونية قراراً بأن تتكلم من منطلق الذات اليهودية. ولم تكن هذه بالخطوة السهلة بالنسبة لأغلب أعضاء الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام. لكن، ولأنهم رأوا أن إسرائيل والصهيونية تقومان بمصادرة أصواتهم، فقد قرروا أن يعتنقوا، من منظور سياسي وثقافي، هويتهم اليهودية (الموروثة بالولادة). وبهذا نبذوا احتكار الصهيونية للهوية اليهودية، ورفضوا أن يتم استيعابهم أو تمثيلهم من قبل إسرائيل وسياساتها واستغلالهم كبيدق في الإدارة العنصرية تجاه المسلمين/ العرب والسود.
وعلى الرغم من اتفاقهم مع مبادئ مناهضة الصهيونية لليهودية الأرثوذكسية (الأصولية)، إلا أنهم لا يشعرون أنها تمثلهم. لسبب أول، وهو أنه على الرغم من أن أغلبية أعضاء الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام هم يهود، إلا أن المنظمة منفتحة على أي شخص يلتزم بأهدافها، بينما الاتحاد نفسه فيتبنى العلمانية.
والسبب الأهم، هو أن أعضاء هذا الاتحاد – وهو أمر أيضا ينطبق على أغلب المنظمات اليهودية غير الصهيونية أو المناهضة لها – يطرحون هويات يهودية أخرى بعيدة عن تلك الهوية العرقية/ القومية التي تطرحها الصهيونية أو التي تطرحها الحركات الدينية اليهودية المناهضة للصهيونية.
تلك الهويات اليهودية تجد جذورها في النظرة الشاملة والمتنوعة، والتي قد تكون علمانية أو دينية، وهي تنتمي إلى الحيز الخاص: ممارسة تتنوع ما بين التقيد الصارم بالطقوس اليهودية (الطعام الحلال، احتفالات البار والبات متسفا للصبيان والبنات قبيل البلوغ، تقديس السبت، الصلاة في الكنيس وهو المعبد اليهودي… إلخ) وصولاً إلى عدم الالتزام الكامل بهذه الطقوس.. ظهرت الصهيونية في أوروبا كردة فعل لكل من استيعاب اليهود في الغرب ولمعاداة السامية أيضاً. أثارت الصهيونية وبرنامجها، بمجرد ظهورها في أوروبا في القرن التاسع عشر، جدلاً وقلقاً بين العديد من اليهود.
لم تسعَ الصهيونية إلى تمثيل كل اليهود فحسب، بل إنها سعت أيضا لمحو تراثهم التاريخي مهددة الوضع الذي خص هذه الطائفة. وكان إنكار ورفض “المنفى” وهو مفهوم شديد المركزية في الديانة اليهودية، وإلغاء وطمس التفسيرات والمعاني اليهودية. جاء النقد من المجتمعات والشخصيات اليهودية من كل أنحاء العالم وفي المقام الأول من أوروبا نفسها، ومن اليهود في العالم العربي بمجرد معرفتهم بها،
لكن أيضاً من الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية، حيث عبّرت المجتمعات اليهودية المنظمة عن معارضة قوية للصهيونية. كان هناك ثلاث اتجاهات نقدية هامة، أولاً، الاتجاه الليبرالي المناهض للتفرقة، ثانياً، الاتجاه الديني الناقد للخاصية العلمانية للصهيونية (أسموها المسيح الدجال)، وثالثاً الاتجاه الاشتراكي والشيوعي الناقد للمنحى الرأسمالي والقومي للصهيونية.. تهدد محاولة عدة دول عربية وآسيوية تصنيف الصهيونية بأنها حركة عنصرية مناهضة للإنسانية ، المؤتمر الذي تعقده الأمم المتحدة لبحث سبل مكافحة العنصرية في نهاية الشهر الحالي في ديربان في جنوب أفريقيا.
ناشد أبراهام فوكسمان مدير اللجنة الأمريكية لمكافحة التشهير دول العالم رفض لغة الكراهية والجهود التي تبذل حاليا للتقليل من أهمية آثار المحرقة النازية ضد اليهود وقال إننا نريد بدلا من ذلك التركيز على مكافحة العنصرية. وجاء ذلك ردا على محاولات بعض الدول الآسيوية والعربية لوصم الصهيونية بالعنصرية والتأكيد على أنها حركة مناهضة للإنسانية.
وقد قدمت الدول العربية والآسيوية مسودة إعلان إلى مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة العنصرية الذي يعقد في ديربان في جنوب أفريقيا في الفترة بين الحادي والثلاثين من أغسطس آب والسابع من سبتمبر أيلول القادمين يساوى معاملة إسرائيل للفلسطينيين بالإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون ضد اليهود. ويرد نص إحدى فقرات الإعلان على النحو التالي:
“إننا نؤكد أن الاحتلال الأجنبي الذي يستند إلى المستوطنات وتقوم قوانينه على التمييز العنصري يتناقض تماما مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ويشكل انتهاكا فاضحا لحقوق الإنسان الدولية والقانون الإنساني ويعتبر نوعا جديدا من الفصل العنصري وجريمة ضد الإنسانية كما أنه تهديد خطير للسلم والأمن الدوليين.”
وتشير فقرة أخرى إلى أنه “يجب ألا يطوى النسيان المحرقة والتطهير العرقي للسكان العرب في فلسطين .” ويشير مسؤولون أمريكيون إلى أن محاولاتهم مع بعض الدول العربية الصديقة للتخلي عن هذه اللغة لم تفلح حتى الآن في إقناعها باتخاذ موقف معتدل،
حيث قال العرب إنه ليس بوسعهم التغاضي عما يحدث للفلسطيني . وتهدد الولايات المتحدة بعدم المشاركة في مؤتمر ديربان إذا لم تتخل الدول العربية والآسيوية عن هذا الموقف إزاء إسرائيل وقد ارتبطت الصهيونية بالملة المحافظة اليهودية منذ بدايتها، وهي الملة التي تأسست في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،
واتخذت موقفاً وسطاً بين الملتين الأرثوذكسية والإصلاحية، فلم تقدس وتحافظ على تنفيذ كل ما ورد في تعاليم التوراة، ولم توافق على الانجرار لحركة التنوير والانغماس فيه وقطع الصلة مع التعاليم اليهودية تماماً، فالمحافظون أرادوا أن يكون وحي التغيير نابعاً من الروح اليهودية لا من خارجها، وكانوا يدافعون عن الصهيونية نتيجة إيمانهم باختلاف التاريخ اليهودي عن تاريخ بقية الشعوب، فهو تاريخ لديه عناصر دينية وأيضاً يتمتع الدين اليهودي من وجه نظرهم بعناصر دنيوية، وهذه الفلسفة هي جوهر الصهيونية التي جمعت بين المقدس والدنيوي في مستوى واحد.
كذلك فقد رأى المحافظون في وعد بلفور عام 1917 وتصويت الأمم المتحدة لإعلان دولة الكيان الإسرائيلي عام 1947 سماحاً لليهود بإعادة تأسيس الدولة من قبل حكام المنطقة غير اليهود، وهو يتجانس مع قسم اليهود للإله بعد نفيهم الثاني، الذي تعهدوا فيه بتقديم الطاعة لدول المنفى وعدم خروجهم عنه. فحكام المنطقة البريطانيون (وإن كانوا في الأصل محتلين لشعوب المنطقة لا أصحاب المنطقة) منحوا اليهود الإذن بإقامة دولتهم على أرض فلسطين، ومن ثم فإن اليهود من منظور الصهاينة لا يخالفون الأمر الإلهي، وإنما ينفذون المسيرة الصحيحة لليهود في تاريخهم الحاضر. وعلى الرغم من رواج فكرة الصهيونية بين المحافظين واللادينيين فإنها لاقت معارضة كبيرة من الملل اليهودية الأخرى، بل ومن الاتجاهات السياسية التي رأت في الصهيونية وتبنيها للفكر الاحتلالي والعنصري حركة تستوجب الرفض والمعارضة.
إن الغرب الذي رغب في التخلص من وجود اليهود على أرضه، بل وتجييش المجتمع اليهودي الأوروبي لخدمة مصالح القوى الأوروبيّة الاستعماريّة في تلك الحقبة، “أبرزُها: السيطرةُ الأوروبيّة على طرق التجارة، وتمدينُ الشعوب “البدائيّة”، بما فيها الشعوبُ العربيّة، وضمنها الشعبُ الفلسطينيّ” وجد في الصهيونية ما يمكنه من تحقيق مبتغاه، ولا سيما أن الحركة الصهيونية في جوهرها لا تختلف عن الحركات الاستيطانيّة الاستعماريّة الأوروبيّة الأخرى، ولهذا حدث التناغم بينهما لتلاقي مصالح الطرفين؛ فالأول لديه هدف إنشاء دولة خاصة لليهود، والآخر يرغب في إنهاء الوجود اليهودي على أراضيه.
ولهذا فإن الدول التي أنشأت الصهيونية وشجعتها على التحرك السياسي لتكوين دولة لليهود على أرض فلسطين تجاهلت كل الأصوات التي تعالت من بين اليهود أنفسهم بشأن رفض الحركة الصهيونية وقيام دولة الكيان الإسرائيلي عام 1948 وغيرها من المسائل، بل وعدَّت هذه الأصوات أقلية لا تمثل الديانة اليهودية. وفي خضم عمليات الشد والجذب بين الصهيونية وداعميها الغربيين، والأصوات المعارضة لإنشاء دولة قومية من اليهود، كان الخاسر الوحيد هو أرض فلسطين وشعبها الذي سُلب حقه، وشرعنه هذا السلب دولياً في المحافل الغربية والأممية.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان