وهل الموت طارق يستأذن قبل أن يأخذ أحبابنا وذوينا ؟! .. فننسى ونتناسى أنه حى بيننا يختار من يأتى موعده بإذن الله -عز وجل- .. أم ألهتنا الحياة فتعلقنا بشهواتها فأصبحنا نفضل الحياة على الموت ؟!..أم هو الخوف من الغامض المجهول الذى نفر منه لواقع مؤلم يكون أهون علينا على الرغم من أنه يدركنا ولو كنا فى بروج مشيدة ؟! .. أهو التمهيد أم المفاجأة أم جرس إنذار أن كل من عليها فان ؟!. هو الفصل الأخير والكلمة الأخيرة فى حياة كل منا.. نودع أحباءنا الذين مازلنا نستعذب حضورهم فى حياتنا التى طالما ملأوها سرورا وفرحا ومؤازرة.. راحلون بأجسادهم التى واراها التراب لكن أرواحهم ساكنة أرواحنا .. نتلاقى لكنه لقاء مؤلم يشتد معه الحنين والشوق لأناس فارقوا حياتنا وإنا على فراقهم لمحزونون!!.
آه يا فراق .. هل نحيا من فراق لفراق حتى نلتقي؟!، ومتى نلتقي؟!، نعيش على أمل اللقاء لأننا لا نعلم الموعد .. وهل لو علمنا الموعد سنرتاح على الرغم من أن أسوأ الأمور أن تعلم موعد رحيلك أو رحيل أحبائك فتموت قبل الرحيل مرتين فلتكن فجأة الفراق أهون علينا.. لكن الراحلين يرحلون بأجسادهم ويتركون لنا آثارهم.. بصماتهم على أشيائهم رائحتهم فى أنوفنا .. أصواتهم فى أسماعنا .. خيالاتهم التى تطاردنا من حولنا فننظر حولنا عسى أن نقابل أشباههم .. أو ننظر للسماء عسى أن نرى وجوههم .. فأصبحنا فى انتظار من لا يأتى أبداً .. أم هو الحزن الذى يذهب العقول أم انتظار رحيلنا إليهم لنحيا عذاباً فى عذاب؟!.
نعلم أننا ميتون .. نحيا لنموت .. فيوم الميلاد خير شاهد على انطلاق السهم الذى يقترب لموعده مع كل يوم بل كل لحظة .. نتغافل لنستمتع بلحظات حياتنا وننسى ونتناسى فتأتى المفاجأة.. أى مفأجاة من يوم آت لا مفر منه!!، لكننا امتثلنا لحياة فى صورة نتطور فيها من صغر لشباب لشيبة وموت كأنها القاعدة ونسينا أن لكل قاعدة شواذ .. يموت من عمره ساعة قبل من ناهز المائة أو أكثر.. هى أعمار كتبها الله -سبحانه وتعالى- فى لوح محفوظ لا يعجلها أو يؤجلها أى أمر غير قدر الله وقضائه .. لكننا نفهم أو لا نفهم . . نؤمن أو يقل إيماننا باحثين عن عقار الخلود!!، وهل يترك الله أحداً من عباده للخلود.. سنة الله وأمره!!.
أجميلة هى الحياة حتى نتمسك بها لهذه الدرجة فنتغافل أنه لا راحة فى الدنيا ؟!.
لكننا نخاف الموت ويصل معنا لرهاب الموت فلا شجاعة فى الموت إلا من تخلى عن الأنا التى تحميه من كل ما يهدد حياته وتجعله يفر من الموت ليحافظ عليها.. فيفر من كل ما يهددها.. لكنها غير موجودة بنفس الدرجة عند البعض من الذين يقابلون الموت بشجاعة مثل المؤمنين أو الشهداء فاتحين صدورهم له ليحظوا بالجنة ونعيمها لإيمانهم بأنك ميت وأنهم ميتون فاختاروا حسن الخاتمة .. أو حتى المتهورين المنتحرين نتيجة يأس .. ليصبح اليأس هو الدافع الذى يقضى على الخوف من الموت.. أو إيمانك الذى يجعلك تؤمن أن لباس الموت هو لباس من ألبسة الحياة .. ترتديه بعد لباس الدنيا لحياة البرزخ والآخرة.
ولكننا مازلنا نخاف ونتصبر ونصبر لنفهم حكمة الحياة .. لنعلم أن الموت جزء من الحياة .. يخلق حياة جديدة .. لكننا لسنا كلنا هكذا!!، لكن علينا أن نكون هكذا حتى نعلم أن الحياة تصلنا للموت ومنه لحياة أبدية.
وفى الفراق يسهل الكلام وأحاديث الصبر ولكنها ليست مجرد أحاديث.. هى الحقيقة التى نرفضها حتى ولو آمنا بها .. هى الحقيقة المرة التى نخشى أن نمر بها على الرغم من أننا نفرح بميلاد طفل صغير ونجزع من الموت حتى ولو كان لنفس الطفل الذى لم نلبث أن نتعلق به .. فنحزن على الجسد الذى واراه الثرى فى مكان ضيق يستحق شفقتنا ونطلب له الرحمة من المولى- عز وجل- بعدما انقطع عمله.. ونحيا نتمنى عودتهم المستحيلة حتى ولو فى أحلامنا.. ولسان حالنا كم نشتاق لكم وكم كنتم عابرى سبيل فى حياتنا!!.
ليصبح الكل راحلاً.. من أحبه الله ومن غضب عليه . . من أحببناه ومن كرهناه .. من بكت عليه الأرض ومن سعدت برحيله ليتوقف شره عن الناس .. لكن يبقى للفراق والحزن على من يفارقنا من أشقاء الدرب والحياة فجأة قسوة .. فنسير ويتساقطون بتمهيد أو من غير تمهيد من مرض وعلة وتقدم فى العمر وغيره من أسباب..فنكبر ويقل من يستمر معنا لنكمل حياتنا وحدنا . . وحدنا!.
ولسان حالنا كم نحتاجكم بجوارنا لتشدوا من عضدنا فى هذه الحياة.. كم نحتاجكم معنا لنتشارك الآلام والأحزان.. أو لنرى فرحتنا فى عيونكم .. كم نحتاج لاهتمامكم وخوفكم علينا.. نسير ونسير حتى لا نجد أحداً بجوارنا ..
ونتساءل أنحن من الأنانية لأن نحتاج بقاءهم لأجلنا ليملأوا فراغنا ونعتمد عليهم ولا ننظر إليهم إلا حينما نحتاج إليهم أم أن وجودهم هو الحياة .. وبغيابهم تغيب شمس الحياة ؟!، فكم كنا نسعد باقتسام أحزاننا معهم والآن حزننا عليهم مع من نقتسمه؟! فهم أحباؤنا وأشباهنا الذين نرتمى فى أحضانهم ليرفعوا من روحنا المعنوية ويبعدوا عنا اليأس ويبثوا فينا الأمل والرجاء.. بالأمس ودعنا آباءنا واليوم نودع أصحابنا وأحبابنا واليوم أو غداً نرحل لنلحق بهم لنعيش ونموت من فراق لفراق!!.
لتمر علينا الأحزان وتأبى إلا أن تحيلنا لأناس آخرين .. فالحزن يغيرنا دائما.. يحفر تجاعيده فى قلوبنا .. قد يكسرها وتلتئم “معيوبة” من هول الشرخ والتحطيم ..قد نصبح بعدها أكثر نضجاً بعد تجاوز تجربة الحزن .. قد نكون أكثر إيماناً وصلابة فى حياة ننتقل فيها من حزن إلى حزن برؤى مختلفة قد تسحبنا للإيمان الأكبر الذى لولاه ما وصلنا إليه.. فقد نؤمن نظريا بأمور وعقائد.. لكن التجربة والمصائب هى العملية التى تبقى صاحبة الفضل فى التطبيق للاختبار والصبر لنظل دائما نؤمن بـ (إنا لله وإنا إليه راجعون) .. و(قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين).
فى رحلة الفراق والحزن كلنا بشر ننكر الصدمة ولكن حتماً لابد من القبول والتسليم وما بين هذا وذاك يكون الصبر والإيمان والثواب..فمع كل حزن كبير قد تكون بداية جديدة لنحتسب ونراجع أنفسنا.. فنحن خلقنا أولياء لبعض فى هذه الدنيا يدفع بعضنا بعضاً وتدفعنا الأقدار كلها للتغيير والإيمان لنصل لحقائق ثابتة وقد لا نصل للعقيدة الخالصة إلا بخوضها .
ويظل الوداع قاسياً حتى ولو فى مشاهد الوداع فى صالات وساحات السفر ولكنه يشتد مع الفراق بعودة مستحيلة.. ليمتلك قلوبنا الحزن فيسكن أرواحنا وضلوعنا فتتألم أجسادنا كما لو كنا مرضى نشكو من أعراض جسدية .
الراحلون تركوا لنا الذكرى التى لا تفارقنا بين الحين والآخر.. تركوا لنا بصمات واضحة وفراغاً مؤلماً وأثراً كبيراً فى النفس لأناس قد نقابلهم فى حياتنا كالفرص النادرة التى لا تعوض فلم يكونوا شيئاً عاديًا لننساهم.
هى حكاية الفقد التى تستمر وتستمر ..مودعين مرغمين..لتصبح الحياة بعدهم هى الوجع.. فنشتاق كل يوم لهم ليأتى اليوم الذى نرحل فيه عن أحبائنا لكن وقتها قد نصيبهم بالوجع.. هى رحلة الحياة أم رحلة الوجع .. فراق لفراق.. نتحمل الألم الذى يصيبنا بالوحدة والافتقار للأحبة والشوق والحنين إليهم فى سعادة متناقضة.
ويحك يا نفسي!! هل هو الألم على الفراق أم سعادة تذكرنا لأحباب ملأوا حياتنا حباً وحناناً؟!، أم هو اللحن الحزين الذى يملأ قلوبنا على رحيل توأم الروح من آبائنا وأصدقائنا والسند والحب الذى فقدناه فى الحياة لنكملها موجوعين؟!، سنة الحياة ومنتهاها لمقابلة رب العالمين.
فنسعد ونطمئن لحسن الخاتمة لأناس من الروعة والطهر والنقاء ما يجعلنا نتمناها لأنفسنا لتكون ما تبقى لنا فى هذه الحياة.
هى حكاية كل واحد وسيرته التى تملأ الأركان نتناقلها ونعتبر وننقى أنفسنا من أهوائها ولهوها فى هذه الدنيا.. نحزن على الأنقياء الذين قد نكتشف قيمتهم فى حياتنا بعد رحيلهم فجأة بصدمة الفراق .. لينطلق نداء التجرد والتطهر والتوبة لنكمل مسيرتنا فى الحياة بدوافع البقاء والثبات، ونحن نعلم أنه لا لقاء بلا فراق .. قد يسبق أحدنا الآخر .. لكن حتما راحلون . . وما يتبقى لنا سوى أن نقول لهم : إليكم يا من تسمعوننا ولا تنطقون.. نناديكم ولا ننتظر سماع أصواتكم.. مازلنا نتصور حياتنا وأنتم فيها .. نتخيلكم فى كل مكان .. تملأ أصواتكم مسامعنا.. حاضرون معنا .. لتواسونا فى فراقكم .. ومن غيركم نلجأ إليهم حتى فى فراقكم.. كلماتكم .. ضحكاتكم .. نصائحكم حاضرة .. فإن غاب الجسد فالروح باقية والعمل باق وما ينفع الناس يمكث فى الأرض فكلنا عابرون راحلون حتما تلتقى أرواحنا فى الدنيا والآخرة ليحشر المرء مع من يحب.