فى قصته الرائعة “بلد العميان” يحدثنا الروائى البريطانى الشهير “هربرت جورج ويلز” عن مرض غريب انتشر في قرية نائية معزولة عن العالم بجبال الانديز فأصاب معظم سكان القرية بالعمى.
ومنذ تلك اللحظة انقطعت صلتهم بالخارج، ولم يغادروا قريتهم قط، ومع مرور الوقت تكيفوا مع العمى وأنجبوا أبناء عُميان جيل بعد جيل، حتى أصبح كل سكان القرية من العميان ولم يعد بينهم مبصر واحد.
وذات يوم وبينما كان متسلق الجبال (نيونز) يمارس هوايته انزلقت قدمه فسقط من أعلى قمة الجبل إلى القرية ولم يُصب الرجل بأذى.. إذ سقط على عروش أشجار القرية الثلجية.. وأول ملاحظة له كانت أن البيوت بدون نوافذ وأن جدرانها مطلية بالوان صارخة وبطريقة فوضوية.. فحدث نفسه قائلاً:
لا بُد أن الذي بنى هذه البيوت شخص أعمى.
وعندما توغل إلى وسط القرية بدأ في مناداة الناس، فلاحظ أنهم يمرون بالقرب منه ولا أحد يلتفت إليه، وهنا أدرك أنه في (بلد العُميان).
فذهب إلى مجموعة منهم وبدأ يعرفهم بنفسه.. من هو؟.. وماهي الظروف التي أوصلته إلى قريتهم، وكيف أن الناس في بلده (يبصرون).
وما أن نطق بهذه الكلمة.. أحس بخطر المشكلة التى أوقع نفسه فيها، وانهالت عليه الأسئلة:
ما معنى يبصرون؟ وكيف؟ وبأي طريقة يبصر الناس؟.. وعندما شرح لهم سخروا منه وبدأوا يقهقهون..
بل ووصلوا إلى أبعد من ذلك حين اتهموه بالجنون وقرر بعضهم إزالة عينيه حيث اعتبروها مصدر هذيانه وجنونه.
لم ينجح بطل القصة (نيونز) في شرح معنى البصر، وكيف يفهم من لا يبصر معنى البصر؟ فهرب قبل أن يقتلعوا عينيه وهو يتساءل: كيف يصبح العمى صحيحًا بينما البصر مرضًا؟!.
مع كل الأسف أصبح بيننا الآن عدد ليس بقليل من “أعوان الشيطان” الذين يريدون لبلادنا أن تصبح شبيهة “ببلد العميان”.. يروجون للتعرى والرذائل والفساد وكل ما يغضب الله بمنتهى التبجح والفجور بدعوى العصرية والتطور، ويريدون أن يغرقوا المجتمع فى موجات انحلال وتفسخ لا تنتهى وأن نعتاد على ذلك حتى نصبح جميعًا صورة طبق الأصل من بلد العميان.
يقول أمير الشعراء أحمد شوقى:
ما كان في ماضي الزَّمانِ مُحَرَّمًا
لِلنَّاسِ في هذا الزَّمَانِ مُبَاحُ..
صاغوا نُعُوتَ فضائلٍ لِعُيُوبِهِمْ
فَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ والإِصلاَحُ..
فالفَتْكُ فَنٌّ وَالخِداعُ سياسَةٌ
وغِنَى اللُّصُوصِ بَرَاعةٌ ونجاحُ..
والعُرْيُ ظُرْفٌ والفسادُ تَمَدُّنٌ
والكِذبُ لُطْفٌ وَالرِّيَاءُ صَلاَحُ
ولكن بإذن الله.. لن تصبح مصر العظيمة أبدًا مسرحًا للتدنى والتهتك رغم أنف عراة المهرجانات الذين جلبوا لأهلهم اللعنات أحياءً وأموات.. ورغم أنف مسوخ الفن والطرب الذين يصرون على الهبوط بالذوق العام، ونشر الألفاظ القبيحة والإنحطاط فى كل مكان، والقضاء على ما تبقى من رجولة وشهامة رجالنا وشبابنا، وإصابتهم بالنطاعة والدياثة.. وعفة وطهارة سيداتنا وشاباتنا، وإصابتهم بالميوعة والخلاعة.
وستبقى مصر الغالية بأمر ربها، ويقظة أزهرها وكنيستها وأهلها الحقيقيين كرام الخلق الطيبن الطاهرين، حامية لكل ما أمرنا به الله عز وجل، وكل ما أوصانا به رسولنا الكريم، مهما حاول الفاجرين.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} صدق الله العظيم.