تتطلب مكافحة الفساد، توافر الإرادة السياسية، ومشاركة المجتمع المدني، وتقوية المؤسسات، فضلاً عن دور التعاون الدولي. فمكافحة الفساد في تونس، تعتبر مسؤولية كل المواطنين وأحزاب وقوى المجتمع المدني الحديث، وهي تتطلب ثورة اجتماعية شاملة معطوفة على تأسيس قيم وممارسة الديمقراطية والحفاظ عليها في المجتمع، وآليات واضحة لتأصيل الشفافية والمراقبة الفعالة.
إلا أن هذا الإصلاح لا يبدو سهلاً نتيجة انعدام الديمقراطية في تونس، ونتيجة ضعف أو انعدام الضوابط وإجراءات الرقابة التي يمارسها المجتمع عن طريق مختلف مؤسساته، وبسبب الروابط والعلاقات الشخصية داخل عوالم المال والسياسة، والتي تعود جذورها إلى قرون من الممارسات الاستبدادية والتقاليد الإقطاعية.
تستلزم هذه القضية أولا تحديد ما نعنيه بمنظمات المجتمع المدني التي يمكن أن تقوم بهذا الدور، وثانيا مدى قدرة المجتمع المدني على مواجهة الفساد بمعناه الشامل، ويلاحظ في هذا الإطار أن معظم الكتابات الخاصة بالمجتمع المدني العربي تنطلق من فرضية وجوده و فاعليته و قدرته على القيام بما يُطلب منه من أدوار، إذا ما توافرت له بعض الشروط و أهمها: الاستقلالية عن الدولة.
غير أن تقويم قدرات المجتمع المدني يستلزم اللجوء إلى مقاربات منهجية أكثر قدرةً على تحليل و تفسير الأدوار المختلفة التي يمكن أن يقوم بها المجتمع المدني خاصة في ارتباطه بمعيار الفاعلية في تحقيق التنمية والتغيير الاجتماعي. وتعتمد هذه المقاربة على منظورين، هما المنظور الوظيفي والمنظور البنيوي. والمنظور الوظيفي هو الذي يأخذ في الاعتبار وظيفة منظمات المجتمع المدني الرعائية و الخدمية سواء بالنسبة إلى التنظيمات المهنية أم المنظمات غير الحكومية.
أما المنظور البنيوي، فيرتبط بدور منظمات المجتمع المدني في المساهمة في عملية التحول الاجتماعي و السياسي للمجتمع باعتبارها أحد الفواعل الأساسية في البناء الاجتماعي. و يتسم دور المجتمع المدني في هذه الحالة في علاقته بمؤسسات المجتمع الأخرى مثل الدولة و السوق بكونه عنصرًا يؤدي إلى التوازن الاجتماعي للقوى الفاعلة و ليس تابعًا أو ملحقًا بتلك العناصر الأخرى.
و تتجاوز منظمات المجتمع المدني بهذا المعنى الدور الرعائي- الخدمي إلى الدور التنموي بمعنى العمل على تغيير الواقع هيكليًا و تعظيم القدرات، والدفاع عن الحقوق و تمكين القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير. مما يعطيها الشرعية و يضع تطويرها في إطار تطوير البنى الاجتماعية للمجتمع. و يعني ذلك أن دور هذه المنظمات دورٌ تعبويٌ يرتبط بالتمكين و تعظيم القدرات في إطار نضالي، حيث تعمل على خلق العقلية الناقدة لما يحدث في المجتمع،
و المبدعة لأشكال ووسائل التغيير و التقدم. وتمثل منظمات المجتمع المدني بهذا المعنى البنيوي القوة القصدية الفاعلة في التغيير الاجتماعي. فإذا انتقلنا إلى دور المجتمع المدني في مواجهة الفساد بمعناه الشامل يمكننا أن نلاحظ أن منظمات المجتمع المدني ، بداية من النقابات العمالية ، و الاتحادات، إلى المنظمات الأهلية، مازالت تتحرك بشكل عام في الإطار الوظيفي سواء بتأثير المعادلة السياسية التي تقوم عليها الحكومة الحالية، في علاقة تبعية للدولة، سواء بإرادتها أو رغمًا عنها، أو بتأثيرات الهيئات الدولية التي تركز على هذا الدور الوظيفي. وعلى الرغم مما نراه من اتخاذ الاتحاد العام التونسي للشغل ، و بعض المنظمات المهنية منحًى سياسيًا، فإنه لا يحمل عادة برنامجًا متكاملاً لمحاربة الفساد، و للتغيير الاجتماعي.
وقد شهد المجتمع المدني أيضًا صحوة كبيرة و تناميًا في تأسيس الجمعيات و المنظمات الأهلية الحقوقية التي كان يمكن أن تكون بداية للمجتمع المدني بالمعنى البنيوي، فإن بعضها قد تأثر بالضغوط غير المعلنة من مؤسسات التمويل الدولية للتركيز على ما يلائم الأجندة الدولية من القضايا و التي و إن كان هدفها أحيانًا إحداث تغيير فهو بالقطع ليس ما تعنيه بالتغيير الاجتماعي الجذري.
الإدارات ، والقطع مع كل السياسات التي تستنزف ميزانية الدولة وتساعد المسؤولين الحكوميين على الاغتناء غير المشروع والإثراء بدون سبب.
إن دور المجتمع المدني كان له وما زال دور فاعل في محاربة الفساد، تطور بشكل ملحوظ على هامش الحريات التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة ، ونذكر في هذا السياق جمعية محاربة الرشوة وجمعيات حماية المال العام والمنظمات الحقوقية.
وحتى يتسنى للمجتمع المدني أن يؤدي دوره على أحسن وجه ، لا بد من إعداد القوانين المنظمة له حتى يتسنى له القيام بدوره الدستوري وتقديم التسهيلات لتأسيس المنظمات غير الحكومية، والمساعدة في تطوير استقلال وسائل الإعلام لتتمكن من الفحص الدقيق العادل للعمليات الإدارية وزيادة الشفافية لهذه العمليات والشراكة والتعاون مع المجتمع المدني لهذه الغاية وتوفير المعلومات والخبرات للجمعيات و دعم البرامج التدريبية لها .
وعلى هذا الأساس لم يعد من السهل للحكومات أو أجهزتها أن تتصدى للإرادة الشعبية في مكافحة الفساد الإداري أو المالي . فالحكومة الآن ملزمة للاستجابة لمطالب المواطنين الذين سئموا من السياسات التي تساهلت مع المفسدين و مرتكبي الجرائم الاقتصادية وتسترت على الفضائح المالية في عدد من الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية.
إن نجاح الحكومة الحالية رهين بمكافحة الفساد ووقف هدر المال العام والحد من اقتصاد الريع وإعادة توزيع الثروات بشكل عادل ومحاربة التهرب الضريبي وربط المسؤولية بالمحاسبة ، ومعاقبة كل من ثبت تورطه في ارتكاب جرائم مالية ، وهذا لن يتأتى إلا بالتعاون مع المجتمع المدني في إطار المقاربة التشاركية ، التي تأخذ بعين الاعتبار أراء واقتراحات للمواطنين.
كما أنه لم يعد مقبولا العفو عن المفسدين أو التسامح معهم انطلاقا من المبدأ الدستوري ” ربط المسؤولية بالمحاسبة ” ، خصوصا وأن ما يعرفه العالم العربي ، جزأ منه ، من هزات اجتماعية وثورات شعبية ضد الأنظمة غير الديموقراطية و الفساد التي سعت من سنين إلى تهميش الشعب واحتكار الثروات بدون حسيب أو رقيب ،
من شأنه أن يدفع صناع القرار بالمغرب بأخذ الأمور بنوع من الجدية في مكافحة الفساد فالفساد -يا عباد الله- داءٌ عضالٌ، إذا استشرى بأُمَّةٍ، أطاح بأركانِ نهضتِهَا، وكانَ سببًا كبيرًا في فشل تنميتها، وضياع مقدَّراتها، وإهدار مواردها؛ بسببِ اختلالِ ميزان العدلِ فيهَا، فالنزاهةُ والعدلُ، أصلُ كلِّ خيرٍ، والفسادُ والظلمُ، أصلُ كلِّ شرٍّ، وللفسادِ الماليّ، صُوَرٌ كثيرةٌ ومتعددةٌ: اختلاسٌ ورشوةٌ، وتزويرٌ وخيانةٌ، فمَنِ انعَقَد قلبُه على الخيانة، تلطَّخ بالصور الباقية؛ فالرشوة من أعظم أبواب الفساد، وهي من كبائر الذنوب والخطايا، سواء سُمِّيَتْ (إكرامية أو هدايا)، والراشي والمرتشي والرائش، ملعونون عند الله، مطرودون من رحمته، على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ أغضَبُوا ربَّهم، وخانوا أمانتهم، وغشُّوا أمتهم، فخسروا دينهم ودنياهم.
معاشرَ المؤمنينَ: لقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبوابَ الفساد المالي؛ فمَنَع مَنْ تولَّى عملًا للمسلمين، أن يستغلَّ وظيفتَه لمصالحه الشخصية، ووضَع -صلى الله عليه وسلم- قواعدَ وضماناتٍ، لحماية المال العامّ، ففي صحيح البخاري، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا عَلَى الصَدَقَةٍ،
فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: “مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ، وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ”، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، “أَلا هَلْ بَلَّغْتُ” ثَلاثًا، بلى لقد بلَّغ -عليه الصلاة والسلام-، فواللهِ لن تزول قدَمَا عبد يومَ القيامة، حتى يُسألَ عن ماله؛ من أين اكتسبه، وفِيمَ أنفقه.