في السياق التاريخي وتطور الفكر الإنساني، انشغل البشر في سعيهم الدائم لتحقيق الأمن والرفاه. وجد العلماء أن غياب الملكية الخاصة لدى المجتمعات البدائية مكن تلك المجتمعات من البقاء والعيش الآمن بعيداً عن الصراع والأزمات والاقتتال والعنف والهيمنة والاستبداد. وسادت العدالة والمساواة والحريات الإنسانية، وهي القيم والأخلاق الإنسانية الملازمة والملتصقة بالذات الإنسانية.
ومع زيادة الأعداد البشرية في حيز التجمعات الإنسانية وتعقد العلاقات الاجتماعية وتداخلها، وندرة الغذاء والماء أحياناً، بدأت الملكية الخاصة بالظهور التي أتاحت لنمو نظام اجتماعي يعتمد على قانون شريعة الغاب “البقاء للأقوى” وهو القانون الذي في إطاره جرى اختراق أعظم القيم الإنسانية وسحقها ومحاولة طمسها على الإطلاق.
أي أن عمومية الفساد المضاد للأخلاق الإنسانية قاد إلى ما يشبه تحول البشر إلى قطيع من الذئاب المتناحرة، وكما هو الإنسان مدني بطبعه فهو عقلاني بوجوده أيضاً. والطبع المدني “العيش المشترك” دفع الإنسان (العقلاني)، العقلاني بالموضوع والوجود نحو البحث عن نظام اجتماعي آخر لحماية الأمن والملكية وأسباب الاطمئنان المختلفة الأخرى لتجاوز حرب الجميع ضد الجميع.
بحث علماء القرن السابع عشر وخاصة هوبس وجون لوك وروسو وميكافيلي وجون بودان ثم الفلاسفة الذين بحثوا في العدالة المثالية من خلال الملكية العامة (المدرسة الماركسية) عن الجذور الأولى لتبلور نشوء الدولة (كعقد اجتماعي) للخروج من حالة الاضطراب العمومية المستدامة الدامية المدمرة التي يمتنع فيها الإنتاج ويتعطل الإبداع وينعدم في ظلالها القاتمة السواد قيام صناعة أو علم أو تجارة أو حياة آمنة على المستوى الشخصي والعام بسبب الخوف الدائم والخطر الداهم للقتل أو الطرد أو الإقصاء أو الاستعباد عند كل لحظة تاريخية أو اشراق شمس أو غيابها.
ولأن الكائن البشري ككائن مدني لا يستطيع أن يحيا ويتكامل إلاّ بالعيش المشترك مع الآخرين فلا بدّ إذا من تحكيم العقل لتلافي الموت الذي يطارد البشر للعيش بسلام وأمن أصبحا نادرين. الرغبة في السلام والأمن الدائم جعل المجتمعات والأفراد يميلون إلى الرغبة في التنازل عن أجزاء من الحقوق الطبيعية والاقتصار على قدر من الحرية يتساوى بحرية الآخرين من خلال التعاقد بين الناس المتساوون.
أشار جان جاك روسو: أن الخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، ولكن هذا الخضوع لقوة أخرى فوق قوة المجتمع التي أصبحت تسمى (دولة)، يلزمه وجود حاكم يفوضه المجتمع (بالحكم) بشرط حماية أمن المجتمع الذي أصبح مفقوداً (التفويض) بالتعاقد المجتمعي الساري الممتد استلزم وجود حاكما مفوضاً لضمان تنفيذ العقد الاجتماعي للخروج أو الهرب من قانون شريعة الغاب إلى قانون الدولة المحايدة العادلة المفوضة باستخدام القوة الشرعية. فالعقود بلا سيف ليس سوى سراباً أو كلاماً فارغاً كما يقول هوبس
أصبح العقد الاجتماعي بمثابة التعبير الدقيق والأمين عن إرادة الشعب، والذي افترض تبلور قوة ضاغطة مفوضة باستخدام القوة الشرعية فوق الجميع وضمان احترام المتعاقدين لعقدهم، وأن تفرض عليهم هذه القوة الناشئة (الدولة) العقاب اللازم عند الضرورة، ويتجاوز العقاب المنفعة التي يحوزونها إذا خرجوا عن عهدهم بالعقد الاجتماعي،
وأن الأجماع المتحصل عن الاجتماع العمومي للتوصل إلى عقد اجتماعي اتفق فيه الناس على تفويض / اختيار حاكم أو هيئة حكم تمارس سلطتها على الجميع. بحيادية وفق معايير العدل الطبيعية، وتمارس الدولة سلطتها على الجميع مقابل تنازل الناس لها عن سلطاتهم الطبيعية أو أجزائها منها ولهذا وجدت الدولة التي يدينون لها جميعاً بالسلام والحماية.
ان الاجتماع (المتخيل) الذي بمقتضاه ظهر أجماع مطلق على اختيار حاكم أو هيئة حكم تمارس سلطتها لإنهاء الحرب الدموية الطويلة، لا يحتمل أن يكون هذا العقد/ الاجتماع قد وقع كحدث تاريخي بالفعل، وإنما هو أقرب إلى أن يكون أسطورة فسّر بها هوبز رضى الإنسان عن تحديد حريته وخضوعه لسلطة الدولة لأجل غاية سامية وهي ضمان تحقق العدل والسلام والأمن التي فقدت بعد تبلور الملكية الخاصة في السياق التاريخي.
ليس هناك مفهوماً أدق من وصف العقد الاجتماعي من القول أن العقد الاجتماعي هو عقل المجتمع منزهاً عن الهوى استهدف تاريخياً فض اشتباك المصالح والتوترات الناجمة عنها، وأن العقد الذي أفضى لظهور (الحاكم) أو النظام السياسي لاحقاً أصبحت مهنته التاريخية الحفاظ على الصالح العام دون انحياز لفئة على حساب أخرى. وأن لا يتنازل الأفراد عن حقوقهم إلاّ بالقدر الذي يتيح للسلطة الناشئة أن تقوم بواجباتها للدفاع عن مصالحهم بحيادية تامة.
ووفق منطق العقد الاجتماعي، إذا كان الحاكم طرفاً في العقد شأنه شأن المحكومين، فإذا تجاوز الحاكم حدود صلاحيته المفوض بها وهو تحقيق العدل والصالح العام، فسوف يكون للشعب الحق في تغيير حكومته إذا انحازت (بالفساد) أو انحرفت (بالافراط) بالعنف أو مصادرة الحريات الطبيعية
اختلف جان جاك روسو عن كل من سبقوه، فمن وجهة نظره أن العقد الاجتماعي (عقل المجتمع)، ما هو إلاّ الوسيلة الأكثر أخلاقية لتنظيم العلاقة بين السلطة السياسية والحرية الطبيعية. فالأفراد لم يتنازلوا لحاكم بعينه أو هيئة حكم بعينها (سلطة سياسية) وإنما كان تنازلهم للمجتمع بأسره الذي صارت له عندئذٍ شخصية معنوية مستقلة ومنفصلة عن إرادة أفراد المجتمع أطلق عليها روسو: (الإرادة العامة) التي أصبحت هي مستودع السيادة التي تجسدها الدولة. وبناءً على منطلقات روسو النظرية: “أن التنازل لم يتم لحاكم وإنما للجماعة التي يظل كل فرد منها محتفظاً بنصيب متساوٍ فيما تتمتع به هذه الجماعة من سيادة، فإن حقوق الفرد لا تسقط أبداً وإنما يظل الفرد محتفظاً ببعض جوانبها التي لا يمكن لأحد انتزاعها منه أو الاعتداء عليها أو مصادرتها.
والإرادة العامة بهذا المنطق هي تعبير عن مصالح الجماعة بشكل يخلو من أية استثناءات اطلاقاً، “وهي إرادة تنصهر فيها إرادة الأفراد والفئات المختلفة وتذوب في إرادة واحدة لها شخصية اعتبارية مستقلة تعبر عن إرادة الجماعة ككل وتصبح هذه الإرادة العامة هي مستودع السيادة المطلقة”.( )
إذا كان العقد الاجتماعي هو عقل المجتمع فإن الدولة كجهاز تعاقدي هي عبقرية هذه العقل الإنساني التي شكلت القيمة المعيارية الأسمى لفكرة فلسفية مجردة تجسد سيادة الشعب الذي يختار بإرادته الحرة حكومته التي تمارس السلطة نيابة عنه وهي المخولة قانونياً/ تعاقدياً بإصدار الأوامر/ منظومة القوانين لتمكين الدولة من القيام بوظيفتها التاريخية الأساسية التي وجدت لأجلها وهي حماية أمن المواطنين وحرياتهم من الأخطار التي كانت تهددهم في ظل الحالة الطبيعية التي وجدوا فيها “بعد ظهور الملكية الخاصة” منافية للوجود الإنساني الآمن والأخلاقي.
ولذلك تعين على الدولة أن تمتلك إرادة حيادية كاملة نزيهة وسط المصالح المتباينة للفئات الاجتماعية. لذلك فهي المؤسسة الأخلاقية الأعظم لأنها الجهة الحيادية المعبرة عن تطلعات (الكافة) من الناس ضمن مصلحة عاملة لا تخضع لأية انحيازات عرقية، دينية، جنسية، جهوية، أو طائفية، أو مذهبية أو أي متغير اثني أو اجتماعي تحت أية ظروف طارئة.
تأسس على ذلك الفكر الإنساني القائل: بأن العقد الاجتماعي الذي أفضى إلى الدولة، جعل منها دولة الإنسان في إنسانيته لا في شهواته وميوله الطبيعية نحو الملكية والاستحواذ على حقوق الآخرين المتساكنين في حيزه الجغرافي، دولة تجمعها الاخلاق التي تعتبر أساساً لها مما يجعل هذه الدولة في تناقض مباشر ودائم مع العرق والدم والدين والفئة والتراتب والاصطفاء والاستعلاء. وهي الجهة الحيادية الأرقى من كل المؤسسات الاجتماعية الأقدم لأنها تهيئ الإرادة العامة لخدمة الفرد وتهيئ الفرد لخدمة الإرادة والمصلحة العامة.
“الدولة تتكون – مهما كانت طريقة تكونها – تنمو، تتطور، تنظم نفسها إدارياً ووظيفياً، وسياسياً، تأخذ طريقها في التنمية الاقتصادية، تتحرك ككائن اجتماعي عضوي، لا تقبل بالجمود أو السكون أو التراجع. ومنذ نشأتها وهي تحمل معها مصداقيتها”. لذلك فإن الشعوب لم تختلف على وظيفة الدولة وإنما كان الخلاف والصراع دائماً على حكومة هذه الدولة أو نظامها السياسي الذي قد يتعثر أو ينحاز أو يمتهن الفساد ويشجعه بالاستبداد والمحسوبيات والحسابات العرقية والدينية والتراتبيه والطبقية والسلطوية والتسلط والعنف ومصادرة الحريات والرشاوى وسوء استخدام المال وإهدار الموارد والطاقات.
المصداقية المشار إليها وهي المشتقة من الفعل الثلاثي “صدق” ومن الأسم المقترن بالفعل وهو “الصدق” كأعظم المعايير الأخلاقية الجامعة المحيطة بكل المثل العليا للأخلاق الإنسانية، وإذا ما أدركنا أن المعيار كثيراً لا يعرف إلاّ بضده، فإن الكذب وفق مقاربة الثنائيات الضدية يندرج ضمن أشد المعايير الإنسانية الأخلاقية انحطاطاً وتوحشاً وفساداً وظلماً وتخريباً.
بل أن الكذب من أخطر الصفات اللصيقة بالظلم والفوضى والعدوان والسرقة والسلب والاحتيال والغش والغطرسة والسفاهة والفظاعة والإجرام والانحطاط والابتذال … وإذا ما كان الفساد لصيقاً بالكذب المنافي للصلاح والصالح العام. فإن الفساد كمفهوم ودلالة أشد ارتباطاً بالكذب من أية صفة أخرى قريبة من الدلالات المقترنة به.
لذلك: فإن الأصل للموضوع المطروح للدراسة وهو “الفساد” يفترض أن “الدولة هي المؤسسة الاجتماعية الأرقى لأنها المؤسسة القيمية المرتبطة بالصدقية والمصداقية في الحكم السياسي للمجتمع السياسي/ المدني، وهي خاصيتها الأبرز في التعاطي مع المجتمع وفق مضمون العدل والمواطنة المتساوية وتحقيق أمن وسلامة الجميع، بما في ذلك حماية حقوق الكافة من المواطنين (الإرادة العامة) بما يحقق حماية الحريات الطبيعية التي ولد الإنسان بها. وهذه هي الوظيفة السياسية للدولة التي لم تنقطع مصداقيتها منذ اختلقتها الشعوب للخروج إلى الأبد من شريعة الغاب التوحشية.
وحتى تحقق الدولة هذه الوظيفة كان لا بدّ من تطوير المؤسسة التنفيذية “الحكومة” كمخزن للسلطات المعبرة عن وظيفة الدولة من جهة، ومن جهة أخرى “تصبح الحكومة هي الوسيلة لتجسيد سلطة الدولة وإرادتها وهي أداة تصنع وتنفذ سياساتها. ومن ثم فهي مرآة للتعبير عنها ولكنها ليست مرادفاً أو بديلاً لها. وسياسة الدولة ليست سياسة شخصية أو حزبية أو طائفية …
وبالتالي فالدولة هي التي تختار وتدرب الأفراد الذين يتشكل منهم الجهاز الإداري الذي يتم تجهيزه لأداء مهام تتسم بالدوام والاستمرار. لذلك كله، إذا كانت وظائف الدولة ذات طابع عام وفلسفي مجرد، فإن وظائف الحكومة أكثر تحديداً وذات طابع عملي مباشر يمكن اخضاعه للمعاينة والبحث والدراسة الأمبريقية للحكم عليه إن كان حكماً سياسياً صالحاً أو حكماً سياسياً فاسداً