لا ريب أن البحث في قضية التعاون الاقتصادي والتجاري العربي الأفريقي بحاجة إلى حيز أكبر بكثير. تعود العلاقات المصرية الأفريقية إلى عقود ممتدة عززتها الروابط الثقافية والتاريخية والجغرافية الوثيقة التي جعلت أفريقيا جزءاً من التاريخ المصري، وأحد أهم دوائر سياسة مصر الخارجية؛ فمنذ عام 2014، سجلت مصر حضوراً نشطاً في القارة على كافة المستويات استعادت من خلاله دورها القيادي في أفريقيا،
كما فَعلت مصر من علاقاتها النوعية بالدول الأفريقية في كافة المجالات، لاسيما فيما يتعلق بحاجة دولها إلى تعزيز القدرات الاقتصادية، وتنمية آليات الشراكة التجارية، وتحقيق التنمية المنشودة. ولقد شَغلت ملفات التعاون الاقتصادي والتنموي حيزاً كبيراً من العلاقات المصرية الأفريقية حرصت من خلالها القاهرة على استعادة مكانتها في القارة عقب غياب شبه تام على مدار ثلاثة عقود.
في هذا الإطار وتحت عنوان “مصر وأفريقيا. نحو مزيد من الفاعلية والتأثير”، أنه ومنذ عام 2015، تبلور الاهتمام المصري بتعزيز التعاون مع القارة الأفريقية، لاسيما عبر البوابة الاقتصادية في ظل ما يتمتع به السوق الأفريقي من مزايا منحت للمنتجات المصرية ميزة “سهولة النفاذ”، مقارنة بغيرها من الأسواق؛ وذلك من خلال تعزيز الشراكة التجارية مع عدد من الدول الأفريقية مثل تونس والسودان وجنوب أفريقيا ودول حوض النيل، إلى جانب الانخراط المصري في التكتلات الإقليمية الاقتصادية المنتشرة في ربوع القارة مثل “الكوميسا” و”السادك”.
وعلى الرغم مما اتخذته مصر من خطوات جادة وفعالة لتعزيز التعاون المصري الأفريقي في مختلف المجالات كإنشاء صندوق دعم مخاطر الاستثمار في أفريقيا، وإنشاء المركز الأفريقي لمكافحة الإرهاب لمجموعة دول الساحل والصحراء، إلا أن ما يطرأ على الساحة الأفريقية من تحولات وتغيرات متعددة الأبعاد، تُشير إلى أن هناك حاجة لصياغة استراتيجية مصرية جديدة لإدارة العلاقات مع دول القارة تتسق مع ما تشهده من تحولات، وتدفع عجلة التعاون المصري الأفريقي.
وضع التجارة البينية الأفريقية فيما يتعلق بقطاعي الصادرات والواردات البينية وحجم النمو في القارة خلال الفترة من 2019- 2021، ومدى كثافة التجارة في التكتلات الإقليمية الاقتصادية، توصلت خلالها إلى أن هناك فرص مهدرة في مجال التجارة بين البلدان الأفريقية في العديد من المنتجات، خاصة الزراعية والغذائية.
كما أنه على الرغم مما أشارت إليه الدراسة من تسجيل حجم التبادل التجاري بين مصر ودول القارة زيادة متصاعدة خلال السنوات الأخيرة، إلا أنه وفقاً لمؤشر قياس كثافة التجارة المصرية الأفريقية، فإن العلاقات التجارية بين مصر والدول الأفريقية غير العربية تتسم بالضعف، مقارنةً بنظيرتها مع العالم الخارجي. ولقد تصاعد حجم الاستثمار المصري في القارة خلال السنوات الماضية، وصُنفت مصر على إثره بالمستثمر الأكبر في أفريقيا، في ظل ما تبذله مصر من جهود لتعزيز آلية الاستثمار مع دول القارة كإطلاق العديد من المشاريع الاستثمارية ذات الأهداف التنموية، وذلك بالشراكة مع القطاع الخاص كمشاريع بناء سدود ومحطات لتوليد الكهرباء والطاقة الشمسية، والتي تعكف على تنفيذها عدد من الشركات المصرية. ولايزال هناك العديد من الفرص الاستثمارية المصرية في ظل ما تتمتع به القارة من موارد هائلة في مختلف المجالات كالطاقة والموارد الزراعية والثروة السمكية.
وفى هذا الإطار فإن تفعيل فرص الاستثمارات المصرية بقوة فى الدول الأفريقية من شأنه تعزيز قدرة مصر على تذليل العقبات والتحديات الجمة التي تواجه العلاقات الاقتصادية المصرية الأفريقية؛ من بينها عدم وجود خطوط ملاحية بحرية وجوية منتظمة بين مصر ودول القارة، ومحدودية مكاتب التمثيل التجاري.
من أجل معالجتها؛ كتحفيز الاستثمار في البنى التحتية الأفريقية بما يُساهم في الحد من القيود المفروضة على التجارة المصرية الأفريقية، وتطوير شبكات الإنتاج للارتقاء بالقدرة التنافسية ومعايير الجودة، والتركيز على الفرص الاستثمارية الأكثر جذباً في أفريقيا، وذلك عبر آلية تعزيز التعاون والتنسيق بين الوزارات والشركات المصرية.
ولكننا حاولنا – قدر الإمكان – التركيز على تقديم تصور عام حول القضية يستلهم بصورة مبسطة المناخ العام الذي يعمل في أطاره مكون التعاون في الوقت الحاضر. فإذا كان البعض ممن يتناولون شأن العلاقات العربية الأفريقي بصورة روتينية يبدي تشاؤماً إزاء إمكانيات تطوير تلك العلاقات بالنظر إلى حجم التحديات والصعوبات التي تواجهها في الوقت الحاضر؛ فإن الباحث يرى – من خلال ما تعرضت له ورقة العمل – أن مناخ العلاقات الحالي يُعد – بلا ريب – مناخاً استثنائياً بالنظر إل طبيعة التحولات القائمة في هيكل العلاقات الدولية والإقليمية بصفة عامة.
فهو بلا شك مناخ دافع على التعاون والتنسيق بين الطرفين أكثر من أي وقت مضى. فالعديد من تلك التحولات تشير إلى ضرورات واضحة لالتفاف عربي أفريقي حول حماية المصالح ومواجهة التهديدات المشتركة, وعلى رأس ذلك ما يتعلق بمخاطر تراجع اقتصادات الطرفين في مواجهة التكتلات الاقتصادية الاقليمية الناجحة, أو من تغول طبيعة هيكل النظام الاقتصادي الدولي الجائر على مستقبل مصالحهما الاقتصادية, أو من مشاكل الاستقرار السياسي والأمني في ظل تصاعد نشاط جماعات الإرهاب الدولي في عدد من الدول العربية والأفريقية,
ناهيك أيضاً عن التراجع الواضح في الآونة الأخيرة لتأثير بعض الأطر الأيديولوجية التي طالما عطلت تطوير ذلك التعاون, وذلك في ظل التغييرات السياسية التي شهدتها العديد من الدول العربية والأفريقية باتجاه إرساء أنظمة سياسية اكثر عقلانية وموضوعية في النظر إلى طبيعة علاقات بلدانها بالعالم الخارجي بصفة عامة.
من كل تلك المنطلقات يمكن التأكيد على أن المناخ العام للتعاون الاقتصادي والتجاري العربي الأفريقي يشير إلى أن هناك بالفعل العديد من المعوقات والصعوبات الجادة التي تعترض طريق أي محاولة قد تبذل لتطويره. ولكن معظم تلك المعوقات والصعوبات, وخاصة تلك الناشئة من ظروف موضوعية تتسم بها اقتصادات الطرفين, تتميز بأن معالجاتها يمكن أن تتم بصورة أفضل في ظل التعاون وليس بعيداً عنه. كما أنه من الواضح أن المعوقات الناتجة عن السلوك السياسي والتنفيذي للمسئولين عن التعاون لا تبدو بذلك التعقيد؛ إذ يمكن بكل تأكيد تجاوزها في وقت قياسي في حال تجذرت قناعات أولئك المسئولين بمستوياتهم المختلفة وتعززت إراداتهم بخصوص المضي قدماً في طريق تطوير التعاون وتعزيزه.
وتبقى بعد ذلك كله ضرورة النظر بجدية كاملة من قبل جميع أطراف التعاون على المستويات الرسمية وغير الرسمية إلى أهمية الدفع بدور القطاع الخاص في المجال ذاته وتعزيزه وتوفير السبل المثلى لحمايته؛ إذ انه من الواضح تماماً ان أي انطلاقة حقيقية وفاعلة للتعاون بين الطرفين لا يمكن ان تتحقق بعيداً عن مشاركة القطاع الخاص. لذا فمن الأهمية بمكان أن يتم تسويق هذه الحقيقة على كافة المستويات المهتمة بمسالة التعاون بصفة عامة. من الضروري أن يدرك الجميع (رسميون وقطاع خاص) أن المسألة متعلقة في الأساس بتحقيق المصالح الاستراتيجية لأطراف العلاقة أياً كانوا.
أن جهداً كالذي تبذله الأسيكا (راعية هذا الاجتماع) ومن ورائها مجالس الدول الأعضاء في مجال لم شمل مؤسسات وقطاعات الأعمال الخاصة في أفريقيا والوطن العربي حول مائدة التباحث والتنسيق والعمل من اجل تطوير التعاون الاقتصادي والتجاري العربي الأفريقي, يعد بكل قوة خطوة عملية وفاعلة يمكن أن تؤتي ثماراً ذات جدوى حقيقية في المجال ذاته.