عادت مصر الى أفريقيا وعادت افريقيا الى مصر بعد سنوات طويلة من التجاهل المصرى للقضايا الإفريقية، وغيابها عن كثير من المحافل الإفريقية. وعلى ذلك تعددت المؤتمرات الاقتصادية الخاصة بإفريقيا وبالذات فى شرم الشيخ، بل امتد الأمر الى مجالات الثقافة والسينما، وغيرها من مناحى الاهتمام الإفريقي. ويعتبر الاستثمار الأجنبى المباشر عنصرا مهما فى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى هذه القارة الواعدة، وبالذات لانخفاض معدلات الادخار فى القارة وعدم كفاية الموارد للتنمية.
ولقد كانت افريقيا دائما مقصدا للاستثمار الأجنبى وبالذات لاستغلال ما لديها من موارد طبيعية ومعادن، وكذلك فى تنمية المحاصيل الرئيسية التى تحتاجها الدول المتقدمة ومنها القطن، الكاكاو، والبن. مع ذلك بدأ العملاق الإفريقى يحدد اولوياته وهناك احتياج لصناعات جديدة، وبنية اساسية من طرق، ومرافق صحية، ومستشفيات، الى جانب مشروعات الرى، والمزارع الحديثة، والاتصالات.
ومع الفرص الواعدة فى افريقيا، فإن ما تحصل عليه القارة من كعكة الاستثمار الأجنبى المباشر قليل. ففى عام 2019 وصلت التدفقات العالمية من الاستثمار المباشر إلى 1.54 ترليون دولار. مع ذلك فإن أزيد من نصف هذا المبلغ (800 مليار) ذهب الى الدول المتقدمة. فالدول المتقدمة تستثمر فى بعضها البعض. وحظيت آسيا، وبالذات الصين والهند وسنغافورة، بنحو 31% من التدفقات العالمية. وكذلك حصلت أمريكا اللاتينية على 10.7%. أما نصيب إفريقيا فلم يزد على 50 مليار دولار، أى 3.2% من هذه التدفقات.
ومن ضمن الدول الإفريقية جاءت مصر فى المقدمة. حيث بلغت التدفقات المباشرة 9 مليارات دولار، وجاءت جنوب إفريقيا فى المرتبة الثانية، ونيجيريا فى المرتبة الثالثة. وكان عام 2019 عام خير وبركة حيث زادت الاستثمارات المباشرة الى القارة بمعدل ملحوظ، وفى مصر كانت الزيادة كبيرة (10.7%) وخصوصا بعد المؤتمرات الاقتصادية التى عقدت فى مصر، وكنتيجة لسياسات الإصلاح الاقتصادى واستقرار سعر الصرف.
مع ذلك لم يكن لهذه الاتجاهات الصعودية فى الاستمرار بعد جائحة الكورونا فى أوائل 2020. ويتوقع تقرير الاستثمار فى العالم الذى يصدرعن منظمة الأنكتاد لعام 2020، أن تنخفض الاستثمارات العابرة للحدود بنحو 40%، وبالذات فى الدول المتقدمة بسبب هذه الجائحة. أما فى إفريقيا فسيكون الانخفاض فى حدود من 25-35%. و
أ) الوضع الراهن للاقتصاد الأفريقي:
لقد شهدت الدول الأفريقية في السنوات الأخيرة أعلى معدلات لنمو الناتج المحلي الإجمالي، وأدنى معدلات للتضخم حيث بلغ معدل النمو الاقتصادي عام 2007 حوالي 6,5 %. كما تحسنت أوضاع الاقتصاد الكلي بصفة عامة، وتحسن أداء السياسات الاقتصادية وحقق الطلب على السلع الأولية الإفريقية زيادات سنوية متوالية.
كما زادت تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية, حيث بلغت 13,8 مليار دولار أمريكي في عام 2003، و 18 مليار دولار في عام 2005, و 38,8 مليار دولار في عام 2006, و 53 مليار دولار في عام 2007. وبحسب تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية فإن هذه الزيادات راجعة في الأساس إلى الارتفاع المهول لأسعار المواد الأساسية وإلى القفزة النوعية لعائدات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى31% عام 2007, وخاصة في مجال مشاريع استغلال الثروات الطبيعية. وقد ترتب على تلك التدفقات والمشاريع ارتفاعات في احتياطي العملات الأجنبية في العديد من الدول الافريقية.
كما شهدت افريقيا من عام 2006 توجهاً دولياً جاداً إزاء تخفيف أعباء المديونية وذلك في اطار مبادرة أطلقاها كل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي بالشراكة مع مؤسسات تمويل دولية واقليمية اخرى بما فيها البنك الافريقي للتنمية في عملية شطب كامل الديون ( 50 مليار دولار أمريكي) المستحقة على 22 بلداً من مختلف بلدان العالم. وقد أسهمت هذه المبادرة بتخفيض مديونية البلدان الإفريقية بشكل ملحوظ سواء بإلغائها كلية أو بإعادة جدولتها حيث استفادت 26 دولة أفريقية من تخفيض مديونيتها بحوالي 68,4 مليار دولار أمريكي بما يوازي حوالي 50% من ناتجها المحلي الإجمالي في نهاية عام 2007.
ب) شركاء أفريقيا في التجارة والاستثمار:
لقد اصبح من الواضح خلال العقدين الأخيرين تهافت العديد من القوى الدولية وحرصها على إنشاء روابط تجارية واقتصادية متميزة مع أفريقيا. والواقع يشير إلى أن تلك الروابط أصبحت أكثر نضجاً عن تلك التي طالما ربطت دول القارة بمستعمريها طيلة عقود مضت. ويأتي في مقدمة تلك القوى الدولية الصين والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. ولعله من المفيد في هذا المقام أن نعرض لطبيعة أهم ملامح تلك الروابط الاقتصادية علها تساعد على الاستفادة من تجارب تلك الدول في صياغة علاقات اقتصادية متميزة ما بين الطرفين العربي والأفريقي.
1- الشريك الأوروبي:
يعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لأفريقيا ويبلغ حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا في عام 2006 حوالي 200 مليار يورو. كما أن أوروبا هي أيضا تعد ابرز جهة مانحة لأفريقيا وقد بلغت قيمة مساعداتها في عام 2006 حوالي 35 مليار يورو.
وتتمتع العلاقات التجارية بين الاتحاد الاوروبي وأفريقيا بتوافر مجموعة من الشروط الاستثنائية التي تصب معظمها في صالح دول الاتحاد في ظل ما يسمى: “سياسة الافضلية التجارية” الموروثة منذ عهد الاستعمار الاوروبي لأفريقيا. وهي السياسة التي تسعى منظمة التجارة العالمية إلى وضع حد لها. ومعلوم ان كثير من الدول الافريقية تعتمد على الاسواق الاوروبية في تصدير منتجاتها بصفة رئيسية. كما أن الدول الاوروبية تعتمد بشكل رئيسي على أفريقيا في استيراد العديد من المواد الأولية وخاصة في مجال التعدين والطاقة والمعادن النادرة.
وواقع الحال ان الاتحاد الأوروبي يلقى منافسة جادة وشديدة من قبل الصين وكذا الولايات المتحدة التي استشعرت مؤخراً حاجة ملحة لتعزيز تواجدها الاقتصادي والسياسي في أفريقيا. وذلك الأمر اصبح مطروحاً بقوة مؤخراً في أجندة السياسات الأوروبية التي تحاول اعادة النظر بصفة جذرية في سياساتها الاقتصادية والتجارية في افريقيا. ولعل مما يعيب تلك السياسات تركيزها التقليدي على استيراد المواد الأولية واعادة تصدير منجاتها الاستهلاكية إلى دول المصدر دون أدنى اهتمام بتعزيز بنية التصنيع والاستثمار في تلك الدول عبر انشاء مشاريع استثمارية للاستفادة من الثروات الطبيعية وتصنيعها ومن ثم تصديرها لتشكل بذلك قيمة مضافة حقيقية لاقتصادات الدول الافريقية.
2- الشريك الأمريكي
الملاحظ أن الولايات المتحدة ظلت لعقود مضت تعتقد بعدم جدوى زيادة الانغماس في التجارة مع افريقيا سواء لغلبة النفوذ الاوروبي هناك, أو لاعتقادها بتواضع نصيب افريقيا من حصة التجارة العالمية. ولكن تلك الرؤية ما لبثت أن تغيرت بصورة نسبية مع بداية التسعينيات وبالأخص منذ عام 1996 عندما قام وزير الخارجية الأمريكي وقتها “وارين كريستوفر” بزيارة بعض الدول الأفريقية، ثم تلا ذلك زيارات متلاحقة لمسئولين أمريكيين من أبرزها زيارة كلينتون عام 1996 لست دول أفريقية، ثم انعقاد القمة الأفريقية – الأمريكية في الولايات المتحدة عام 2000، التي دعا فيها كلينتون إلى إسقاط 70 مليار دولار عن كاهل الأفارقة.
وقد تصاعد حجم التبادل التجاري بين أمريكا ودول أفريقيا جنوب الصحراء من 7 مليارات دولار في عام 2001 إلى 22 مليارا عام 2011، كما بلغ حجم الاستثمارات الأمريكية الجديدة نحو 3.2 مليار دولار في عام 2010. ومعظم تلك الاستثمارات موجهة نحو مشاريع الطاقة.
وقد وضعت ادارة الرئيس اوباما مؤخرا ما أسمته “ورقة استراتيجية العمل” التي ركزت على بناء شراكة استراتيجية مع افريقي. كما تم انشاء مجلس للشركات الامريكية معني بأفريقيا, فضلاً عن نشاط المسئولين الاقتصاديين الأمريكان في زياراتهم لأفريقيا في الآونة الأخيرة برفقة كبار رجال المال والصناعة في أمريكا
وكانت الادارة الامريكية قد وضعت مخططاً استراتيجيا عام 2000 تحت مسمى: مخطط” آغوا” باعتباره خطة عمل لمدة 15 عاماً تهدف إلى تعزيز التبادل التجاري والاستثمار بين الولايات المتحدة الأمريكية والقارة الافريقية. وقد تضمن المخطط اعفاء قائمة طويلة من السلع المصنعة في بلدان جنوب الصحراء بأفريقيا من رسوم الاستيراد. غير أن ذلك الاجراء أصبح في حد ذاته مصدر اختلال في العلاقات التجارية بين الطرفين؛ إذ أن بعض الدول الافريقية لازالت تلجأ إلى دول آسيوية في الانتاج في إطار هذا البرنامج مما سهل ولوج منتجات صينية وفيتنامية من قطاع النسيج مثلا إلى السوق الامريكية من دون رسوم.
3- الشريك الصيني: “الاستراتيجية الصينية نموذجاً”( )
تمثل الصين ثالث أكبر شريك لإفريقيا في الوقت الذي أصبحت فيه إفريقيا مقصدا مهما للاستثمارات الخارجية التي تقوم بها الشركات الصينية. وتحرص الصين على انتهاج مسار مميز في علاقاتها مع افريقيا حيث تقدم نموذجاً مقبولا في بناء التعاون المشترك الذي يعود بالفائدة على كل الاطراف. كما تحرص الصين على تعزيز علاقاتها الثنائية بالدول الافريقية وفي مقدمتها جنوب افريقيا وأثيوبيا والسودان ومصر. واهتمام الصين المتزايد بالاستحواذ على الاسواق الافريقية يقابله في حقيقة الامر اهتماماً جاداً بتعزيز قدرات المنافسة والتصدير لدى الدول الافريقية وذلك عبر الاهتمام بقطاعات الصناعات الاستخراجية وتسويق المنتجات الافريقية في السوق الصينية. في حين أن الصادرات الصينية إلى أفريقيا هي في معظمها منتجات تامة الصنع ومنسوجات. فضلاً أيضا عن استثمارات كبيرة في مجالات: الاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل، والبنية التحتية، ومصايد الأسماك.
وقد قامت الصين بتشجيع الصادرات الافريقية إلى السوق الصينية وللتصدير إلى مناطق اخرى في العالم عبر انشاء معرض دائم للسلع الافريقية بمدينة “ييوو” بمقاطعة موك, حيث يقيم فيها اكثر من 1000 أفريقي بشكل دائم, وذلك بهدف تشجيع تسويق المنتجات الأفريقية ومساعدة الشركات الأفريقية والتجار للاستفادة من السوق الصينية، وتعزيز تجارة الترانزيت و رفع سمعة المنتجات الأفريقية في الصين.
وتجاوزت الاستثمارات الصينية المباشرة في أفريقيا ما يوازي 15 مليار دولار، وذلك عبر مشاريع استثمارية في 50 بلدا. كما تعهدت الصين عام 2009 بتقديم قروض تفضيلية للدول الافريقية بحوالي 15 مليار دولار لمساعدتها في تطوير البنية التحتية، والزراعة، والصناعة التحويلية، والمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم.
وقد ساعدت التجارة الصينية والاستثمار في أفريقيا على تحفيز النمو الاقتصادي المرتفع باستمرار. ويقدر صندوق النقد الدولي معدل ذلك النمو بـــ 5,8% في دول أفريقيا جنوب الصحراء كنتيجة لهذه الاستثمارات.
كما عمدت الصين إلى تقديم الدعم الاقتصادي والفني لعدد من الدول الأفريقية في العديد من المجالات الاقتصادية والفنية والبنية التحتية, حيث قامت الصين منذ عام 2006 ببناء أكثر من 100 مدرسة و 30 مستشفى و 30 مركزا لمكافحة الملاريا و 20 مركزا لعرض التكنولوجيا الزراعية في أفريقيا.
وبالنظر إلى تطور حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا يمكن تلمس الجهود الاستثنائية التي تبذل في سبيل تعزيز العلاقات بين الطرفين, حيث بلغ إجمالي حجم التجارة بين الصين وأفريقيا في عام 1980 حوالي مليار دولار, وفي عام 1999 كان 6,5 مليار دولار، وفي عام 2000 بلغ 10 مليار دولار, وبحلول عام 2005 كان إجمالي التجارة الصينية الإفريقية حوالي 39,7 مليار دولار, وذلك قبل أن يقفز إلى 55 مليار دولار في عام 2006, ثم إلى 100 مليار دولار عام 2010. وقد بلغت نسبة الزيادة في حجم التجارة منذ عام 1990 ما يقارب 700٪. في حين سجلت تلك الزيادة في السنوات الأخيرة معدل نمو سنوي يتجاوز 30%.
وقد جاءت الصين عموماً بنظرة جديدة للشراكة الصينية الأفريقية على أساس المساهمة في كل المجالات وباختصاصات مختلفة مثل بناء السدود، تركيب شبكات الألياف البصرية والشبكات اللاسلكية, بناء المستشفيات والمستوصفات والمدارس، وتقديم قروض دون فائدة. علاوة على ذلك تعرض الحكومة الصينية على بعض الدول شراكة كاملة في مشاريع استراتيجية مثل المناجم والسدود والمحطات الكهرومائية وخطوط السكة الحديدية والطرق السريعة ومصافي البترول.
وإلى جانب مساهمة القطاعات الحكومية، هناك أيضاً الاستثمار المباشر الخاص بالجالية الصينية المتواجدة بكثرة وفي قطاعات مختلفة في الدول الأفريقية. وتقدم الحكومة الصينية وسفاراتها مساعدات جادة للجالية الصينية العاملة بإفريقيا من خلال تزويدها بالمعلومات النافعة، والاستشارات القانونية، والقروض بلا فوائد، والمكافآت للعمال في الخارج عند عودتهم إلى وطنهم.
وتتمثل استثمارات الجالية الصينية في أفريقيا في مصانع تحويلية وفنادق ومطاعم. وفي الوقت الذي يضع فيه المستثمرون والشركاء الغربيون شروطا مسبقة لشركائهم الأفارقة, يتعامل المستثمرون الصينيون على مبدأ أقرب للمساواة. وعادة ما تفرض السلطات الصينية على مؤسساتها العمومية والخاصة حسن التصرف مع البلد المضيف، وخاصة احترام القوانين المحلية، والإجابة على طلبات العروض بشفافية، واحترام قانون العمل لصالح عمال البلد المستقبل، والمحافظة على البيئة