لم يخطر ببالنا أن نقرأ عن إثيوبيا، أو عن جاراتنا الإفريقيات، حتى بعد أن تفجرت أزمة سد النهضة، فقد كان واجبا أن نعرف الكثير عن هذه البلاد وشعوبها، ولو من قبيل الثقافة العامة، كى نحسن فهمهم والتعامل معهم، ولا تصدمنا مفاجآتهم، هذه الثغرة المعرفية حاول أن يسدها الصديق الدكتور محمد إبراهيم المصرى أستاذ هندسة المكروتشبس بجامعة ” ووترلو ” فى كندا، من خلال كتابه الشيق ” رحلة إلى اثيوبيا ” الصادر حديثا عن مؤسسة مجاز الثقافية .
فى البداية يشرح الدكتور المصرى لماذا انشغل بتأليف هذا الكتاب فى هذا التوقيت، فيقول إن مشكلة السد معروفة لدى المصريين، لكن إثيوبيا نفسها غير معروفة، مع العلم بأن مابين مصر واثيوبيا من حضارة وتاريخ مشترك ونسب ومصاهرة يرجع لآلاف السنين، وجغرافيا الأرض وجغرافيا البشر مشتركة أيضا، ومصير البلدين مشترك، لذلك من الضرورى أن يعرف المصرى إثيوبيا بعيون مصرى عاشق لبلده .
وينبهنا إلى أنه اتجه إلى المراجع التى كتبها مصريون وعرب عن إثيوبيا فوجدها قليلة جدا، وفقيرة فى المعلومات، وعندما لجأ إلى مراجع أجنبية وجدها زاخرة بما يمكن أن يحتاجه الباحث طالب المعرفة، لكن معلومات هذه المراجع ممزوجة بمغالطات وافتراءات لايقبلها عقل عن مصر واثيوبيا على حد سواء، وخصوصا عندما تتعلق بالإنسان والحضارة فى البلدين، فهناك كتاب غربيون يكتبون بدافع ” فرق تسد “، كقولهم إن حضارة مصر الفرعونية ليست حضارة إفريقية، وإن مصر لاتعتبر جزءا من إفريقيا المتخلفة، وإنما هى جزء من حضارة أوروبا اليونانية، ثم أوروبا الحديثة، وإن ” طبيعة ” الإفريقى عموما ـ المصرى والإثيوبى ـ الكسل وعدم احترام الوقت والعمل، وعدم تقدير المرأة، ومن صفاته الفرار من الحرب، وإن سبب تخلف الأفارقة حضاريا هو اللغة والدين والثقافة .
وقد أفرد الدكتور المصرى جانبا مهما من كتابه للرد على هذه المغالطات، كما أفرد جانبا آخر لبيان مدى اهتمام المصريين بإفريقيا عموما، وإثيوبيا على وجه الخصوص، منذ خطوط التجارة النشطة تاريخيا بين البلدين عبر نهر النيل فى عصر الفراعنة، والعلاقات العربية مع الحبشة، وهجرة المسلمين الأوائل إليها فى زمن النجاشى، ولعبت ثورة 1952 دورا كبيرا فى إيقاظ وعى الشعب المصرى بأهمية إثيوبيا كمنبع لنيل، وأشار فى هذا الصدد إلى كتاب ” أضواء على الحبشة ” الصادر عام 1954 عن دار المعارف، واشترك فى إعداده مجموعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة والمفكرين والباحثين والصحفيين ( مصطفى وعلى أمين )، وكتب مقدمته جمال عبدالناصر، وفى هذا الكتاب الفريد فصل مهم بعنوان ” مباحثات حول بحيرة ” تانا “، مصدر النيل الأزرق فى هضبة الحبشة .
وتتعدد فى الكتاب الإشارات إلى مشتركات التاريخ والجغرافيا بين مصر وإثيوبيا، لعل أبرزها العلاقات المعروفة بين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وإمبراطور إثيوبيا هيلاسيلاسى، ووشائج القربى بين الكنيسة الأرثوذكسية المصرية والكنيسة الإثيوبية، والدور الذى قامت به مصر لدعم حركات التحرر فى القارة السمراء وفى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية واختيار العاصمة الإثيوبية مقرا لها، كما يتضمن الكتاب فصولا عن إثيوبيا من الداخل، فيتحدث عن النظام السياسى فيها والدستور والقوميات والأعراق واللغات والأديان، والمساحة والتضاريس والمناخ وعدد السكان ( أكثر من 100 مليون نسمة )، وعدد المسلمين تحديدا ( حوالى 35% )، وعن دول الجوار والحروب التى دخلتها إثيوبيا بسبب المشكلات الحدودية والعرقية مع هذه الدول .
ويحظى نهر النيل بأهمية خاصة فى هذا الكتاب الماتع، فيأخذنا الدكتور المصرى فى رحلة طويلة إلى منابع النيل الأزرق، الذى يسمى ” أباي “، وبحيرة ” عطبرة ” وخور الجاش فى هضبة مترامية الأطراف هى أعلى هضاب إفريقيا، وجبالها هى أعلى جبال إفريقيا، ومن هذه الهضبة الكبرى تسيل أنهار فرعية كثيرة تتجمع فى بحيرة ” تانا “، ثم تهبط إلى المجرى الرئيسى .
ووسط هذه المعلومات الكثيفة، يتوقف بنا المؤلف فى محطات لالتقاط الأنفاس، وليتقمص شخصية المرشد السياحى فيحدثنا عن ساعات الطيران التى تفصل بين القاهرة وأديس أبابا (300 دقيقة تقريبا )، وأهم المدن والمساجد والكنائس والمزارات السياحية فى إثيوبيا، والثقافة والفنون وأوبرا عايدة ـ قصة الحب بين مصر والحبشة القديمةـ وعادات الشعب الإثيوبى وتقاليده وطريقة حياته، وأشهر أكلاته وملابسه، والقهوة الحبشية والقات، وطرز العمارة وأشكال البيوت، ثم يتوقف بنا عند مدينة “هرر” التى أدرجتها اليونسكو عام 2006 على قائمة التراث الإنسانى، وقالت إنها تعتبر ” رابع مدينة مقدسة فى الإسلام بعد مكة والمدينة والقدس، وذلك لوجود 82 مسجدا تاريخيا فيها، ثلاثة منها تعود إلى القرن العاشر، بالإضافة إلى 102 من أضرحة العلماء “.