تحكى إحدى أساتذة الجامعات:
كنت كلما مررت بذاك الشارع المجاور للجامعة أثناء تحضير رسالة الماجيستير وجدت نفس الفتاة تجلس وقد وضعت أمامها بعض أكياس المناديل بينما انشغلت هي بالكتابة في أوراق بيدها، لم أهتم في البداية، ومرة بعد مرة زادني الأمر فضولًا.. تُرى ماذا تكتب ؟!..
وقفت لأشتري منها مناديل وقلت:
-ماذا تفعلين؟..
أجابت دون أن تنظر:
أحاول إنهاء الواجب المدرسي قبل عودة أمي..
-وأين أمك؟..
-في إحدى البيوت المجاورة تمسح السلالم..
-هل تذهبين الى المدرسة؟..
-نعم.. فبعد وفاة أبي أصرت أمي على أن ندرس..
-ألديكِ أخوات؟..
-نعم ثلاثة من الإناث، واثنين من الذكور.
-أين هم..
-اختي الكبرى تجلس مع الصغار وتعد أعمال المنزل حتى نعود في آخر النهار.. بينما يعمل أخي أسامة في إحدى ورش السيارات ويعمل أحمد في تنظيف السيارات.
استكملت الحديث معها، وحاولت أن اعطيها نقود أزيد من ثمن المناديل لكنها لم تقبل أبدًا.. وقد عرفت من حديثها أنها تدرس في مدرسة الحي في الصف الثالث الإبتدائى.
في اليوم التالي ذهبت الى المدرسة وسألت عنها.. رأيتها تجلس وحدها ليس لديها أي أصدقاء أو ربما ينفر الجميع منها كما أخبرتني المعلمة.. ملابسها تبدو قديمة ولا تملك أي مصروف شخصي كزميلاتها على الرغم من كونها متميزة وذكية في دراستها.. احزنني ذلك كثيرًا فقدمت إلى المديرة بعض المال وطلبت منها أن تكرم هذه الفتاة في اليوم التالى باعتبارها طالبة مثالية وتقدم إليها هدية تشمل بعض الكراسات والأقلام وماينقصها في دراستها مع ثوب جديد، وذلك لعفة نفسها وعدم تقبلها الصدقة.
لم تمانع المديرة في ذلك كما أنها أمدتني أيضًا بعنوانها كما طلبت منها.
عدت يومها الى منزلي وبداخلي جزء كبير من الراحة لشعوري أنها ستفرح كثيرًا بذلك.
وفى المنزل وبينما أتناول العشاء مع زوجى وجدته ليس على مايرام.. حاولت أن اعرف ماذا يحزنه هكذا لكن لم يتحدث..فتوقعت كما لو أن أحدًا من أهله حدثه بشأن الإنجاب -الذي تأخر أربعة أعوام- ولا يريد أن يخبرني كيلا أحزن.
في اليوم التالي وقبل ذهابي الى الجامعة ذهبت الى منزل الفتاة وأخبرت والدتها أني سأقدم إليها في كل شهر مبلغ من المال لأجل دراسة ابنتها مع تأكيدي لها أن هذه جائزة من المدرسة لكونها طالبة مثالية.. فرحت الأم كثيرًا بهذه المنحة وبقيت أنا على وعدي لطوال سنواتٍ كثيرة.
عشت هذه السنوات في سعادة كبيرة.. كان الخير يأتي إليّ من كل باب أقصده، أنجبت اثنين من الاناث ومثلهم من الذكور.. حصلت على الماجيستير وتبعته بالدكتوراه، ترقى زوجي في عمله مرات متكررة.. وتبدلت حياتنا كثيرًا ولم يكن يعلم زوجي كيف حدث ذلك، بينما كنت أعلم أنه سر الصدقة التي أقوم بها إلى هذه البنت وكلما ازددنا كلما قدمت إليها المزيد.
اليوم أراها تجلس بين طلابي في كلية الطب وتعد أكثرهن تفوقًا وتميزًا ولا تعلم أني معها منذ طفولتها ولا تعلم أنها سر كل ماوصلت إليه في حياتي.
يا صديقى.. ثق أن الصدقة هى سر البركة الأعظم من الله سبحانه وتعالى.