يؤدّي تدهور النظم البيئية دوراً كبيراً في انتشار الأوبئة والأمراض، وذلك بسبب ارتباط الصحة البشرية العامة بأحوال الأنظمة الإيكولوجية، وفيها صحة الأنواع (النبات والحيوانات) تحديداً. ويعدّ الضغط الهائل الذي تتعرّض له الطبيعة من جراء النشاط البشري من العوامل التي تعزّزها التهديدات الصحّية على المجتمعات والأنظمة الطبيعية معا. إن تواصل الحياة البرّية بحياة الناس اليومية بسبب التمدّد العمراني وتدمير الموائل الطبيعية للحيوانات والبحث عن الغذاء والاتجارغير المشروع بالحيوانات والصيد الجائر، يسهّل نقل الفيروسات من الحياة البرّية والاستيطان بالتالي بين البشر كعدوى تتكرّر على شكل كورونا، سارس، إيبولا، إنفلونزا الطيور، ومتلازمة الجهاز التنفسي في الشرق الأوسط، وجميعها فيروسات حيوانية انتقلت إلى البشر. و يُعدّ فيروس كورونا وما رافقه من تدهور للقطاع الصحّي وشلل الحياة الطبيعية منذ تفشّيه في عام 2019 حتى يومنا هذا، عيّنة صغيرة عمّا قد نواجهه في المستقبل القريب إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه من تعدّيات مباشرة على الحياة البرية وتداعيات التغيّر المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، لنصبح أمام خطر حقيقي يهدّد الحياة برمّتها على كوكب الأرض. وقد ثبت أن هناك علاقة ترابط بين التغير المناخي وإنتشار الفيروسات وصحة الانسان، حيث تتضمن التأثيرات المثبتة للتغير المناخي زيادة في درجات الحرارة والتغير في أنماط هطول الأمطار وحدّة بعض الظواهر الطبيعية (الفيضانات والكوارث الطبيعية) التي تؤثر مباشرة في صحتنا عن طريق التأثير في الطعام الذي نتناوله، والمياه التي نشربها، فخلال الأعوام الماضية أدّى الطقس الدافئ أو (الربيع المبكر) إلى تزهير بعض النباتات قبل أوانها، لكن تفقد الزهرة من جراء أيّ عاصفة، وتفقد بذلك الثمرة. ولا تجد الحشرات الملقحة بالتالي زهوراً كافية لتلقيحها في موسم التقليح، الأمر الذي يؤثر مباشرة على كلا من الموسم الزراعي وعلى الحشرات الملقحة. ومن التأثيرات المباشرة للتقلبات المناخية موت العديد من الحشرات التي تتغذى على الأشجار، وأيّ خلل في النظام البيئي سيؤثر مباشرة على صحة الإنسان، نتيجة إنتشار العديد من الأمراض المعدية الحيوانية الأصل. وتتضمّن سيناريوهات التغير المناخي ، حدوث تغيرات في أنماط انتشار الأمراض المعدية مع ارتفاع درجات الحرارة وكذلك انتشار الأوبئة المرتبط بالظواهر الجوية المتطرفة. ونشهد حالياً تغيراً واضحاً في مدى انتشار الأمراض المحمولة عبر الكائنات الناقلة نتيجة للتغير المناخي. ومن أهم أنواع الأمراض ذات الحساسية لتغيرات المناخ هي الأمراض الفيروسية والطفيلية المحمولة عن طريق البعوض مثل فيروس غرب النيل، والملاريا، وحمى الدنج وغيرها. كذلك يؤثر التغير المناخي على انتشار الأمراض عن طريق تغيير المدى الجغرافي للكائنات الناقلة وتقليص مدة حضانة الكائنات الممرضة. كما يمكن أن تسهم درجات الحرارة بتغيير نمو الكائنات الناقلة لمسببات الامراض عن طريق تعديل معدلات قدرتها على إصابة ضحاياها، وكذلك تؤثر درجات الحرارة على ديناميكية المجتمعات في الكائنات الناقلة ومعدلات وجودها بالقرب من البشر. وبالتالي فإن التغير في أنظمة درجات الحرارة يمكن أن يغير طول مدة موسم نقل الأمراض. كما يمكن أن تتكيف الكائنات الناقلة للأمراض مع التغيرات الحرارية عن طريق تعديل مدى انتشارها الجغرافي وتوسعته. وقد تكون إحدى أهم نتائج التغير المناخي هي إمكانية ظهور أو إعادة إطلاق فيروسات وبكتيريا وطفيليات مستجدة. يمكن أن يؤدي الإجهاد الحراري الى زيادة إمكانية نقل مسببات الأمراض ذات المنشأ الحيواني من حيوان الى آخر، كما يمكن أن يسهم برفع احتمالات انتقال هذه الجراثيم الممرضة ما بين الأنواع المختلفة. وبالنسبة للعديد من مسببات الأمراض، تؤدي البيئة المحيطة دوراً كبيراً في نقل الأمراض وبالتالي فإن حدوث تغير في الظروف البيئية كدرجة الحرارة على سبيل المثال قد يؤدي الى تغير نطاق الانتشار الجغرافي والتنوع في السلالات والتغيرات الموسمية لوجود الكائنات الممرضة في الطبيعة، وهذا من شأنه التسبب بظهور انتشارات مرضية جديدة مثل الإيبولا والسارس والميرس وغيرها. إن “التآكل المستمر في المساحات البرّية التي تفصل البشر عن حياة الحيوانات، سينقل تلك الأمراض التي تأويها موائل الحيوانات والبيئات الطبيعية إلى البشر. تضاف إلى ذلك عوامل أخرى مثل أسوأ غزو للجراد شمل أجزاءً من أفريقيا والشرق الأوسط عام 2020، إذ تشير جميع البحوث العلمية إلى أن الأمراض الناشئة هي نتيجة طبيعة المتغيرات البيئية الناتجة عن النشاط البشري، كما تشير أوراق علمية كثيرة إلى أن كوفيد-19 ليس سوى وجه من وجوه هذه التغيرات التي لا تتوقف ما لم يتوقف البشر عن إجهاد الأرض”.
ولكن ماذا يعني التنوع البيولوجي لصحة الإنسان؟ يعتمد الناس على التنوع البيولوجي في حياتهم اليومية، بطرق لا تكون ظاهرة أو موضع تقدير دائماً. تعتمد صحة الإنسان في نهاية المطاف على منتجات وخدمات النظام الإيكولوجي (مثل توافر المياه العذبة والغذاء ومصادر الوقود). ويترك فقدان التنوع البيولوجي آثاراً مباشرة وكبيرة على صحة الإنسان، إن لم يعد هذا التنوع قادراً على تلبية احتياجات المجتمعات من مصادر الغذاء والمياه، مما يعود بالضرر على الصحة البشرية والبيئية بالدرجة الأولى، فضلاً عن نتائج سلبية أخرى كالهجرة المحلية والصراعات السياسية من جراء نقص الموارد. بالإضافة إلى ذلك، يوفر التنوع البيولوجي للكائنات الحية الدقيقة والنباتات والحيوانات فوائد واسعة النطاق في مجالات العلوم البيولوجية والصحية والصيدلانية. وتتم اكتشافات طبية ودوائية كبيرة من خلال فهم أكبر للتنوع البيولوجي للأرض. قد يؤدي فقدان التنوع البيولوجي إلى الحد من اكتشاف العلاجات المحتملة للعديد من الأمراض والمشاكل الصحية. وبالنسبة للتهديدات التي يتعرض لها التنوع البيولوجي والصحة فهناك قلق متزايد بشأن العواقب الصحية لفقدان التنوع البيولوجي مستقبلاً. حيث تؤثر التغيرات في التنوع البيولوجي على أداء النظام الإيكولوجي ويمكن أن تؤدي الاضطرابات الكبيرة في النظم الإيكولوجية إلى سلع وخدمات النظم الإيكولوجية التي تحافظ على الحياة. ويعني فقدان التنوع البيولوجي أيضاً أننا نفقد، قبل الاكتشاف، العديد من المواد الكيميائية والجينات في الطبيعة، من النوع الذي قدّم بالفعل للبشرية فوائد صحية هائلة. أن فقدان التنوع البيولوجي يؤثر على صحة الكوكب، وعلى الكائنات المختلفة، نظراً لتواصلنا المباشرمعها. وفى الطبيعة عندما يكون تنوع الجينات منخفضاً في الكائنات الحية بالنظام الإبكولوجي يصبح أفرادها أكثر عرضةً للأمراض وعلى نطاق أوسع. النظم الإيكولوجية ذات التنوع البيولوجي العالي تجعل القدرة على مقاومة الأمراض والضغوط البيئية أعلى أيضاً. وعندما تكون الأنظمة الطبيعية أضعف، فذلك يؤثر على أمننا المائي وأمننا الغذائي وحتى صناعة الأدوية لإيجاد علاجات في الطبيعة. أكثر التأثيرات وضوحاً هو التأثير على طعامنا: حيث أن زُراعة طعامنا في تربة غير صحية، سيكون ناقصاً للعديد من الموادَّ غذائية وهذا يؤثر مباشرة على صحتنا ونظامنا المناعي. وفي نظم الزراعة التقليدية (وهى أكثر انتشاراً لكن أقل استدامة) هذا يعني احتياج المزيد من الأسمدة والمبيدات الحشرية.. التي تذهب إلى مياهنا وتزيد من ملوحة التربة وتقلل من جودتها… دائرة لا تنتهي. فقدان التنوع البيولوجي يؤدي إلى خسارة في قدرة مقاومة الكائنات ضد الأمراض الجديدة.
بقلم: ا.د/ عاطف محمد كامل أحمد-مؤسس كلية الطب البيطرى جامعة عين شمس ووكيل الكلية لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة والمشرف على تأسيس قسم الحياة البرية وحدائق الحيوان استاذ – عضو اللجنة العلمية لإتفاقية سايتس- وخبير الحياة البرية والمحميات الطبيعية اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية وخبير البيئة والتغيرات المناخية بوزارة البيئة- الأمين العام المساعد للحياة البرية بالإتحاد العربى لحماية الحياة البرية والبحرية- جامعة الدول العربية ورئيس لجنة البيئة بالرابطة المغربية المصرية للصداقة بين شعوب العالم