وكم من يوسف عبدالرحمن بيننا يرحلون في صمت ..ولا يطرف لأحد من الأجيال الجديدة لهم بطرف ولو خفي ..الزميل والصديق والاخ يوسف عبدالرحمن نموذج لحالة من حالات الصحافة العجيبة الغريبة والمريبة.. نموذج لحالة يمكن توصيفها بالقول عندما تأكل الصحافة نوابغها .. تدفعهم الحالة الصحفية إلى الخروج غير الآمن لمسارات يطبق عليها الصمت ويغلفها القهر ويدفعها الامل الموؤد واليأس القاتل .. لولا بقية من روح مصرية جبلت على قوة التحمل والصبر بلا حدود في عالم صاخب لا يتوقف عن القفز فوق الحواجز بالمفاجآت ومسحة من فكاهة متفجرة في لحظات الضيق والالم وفقا لقاعدة شر البلية ما يضحك ..وكم في الصحافة من مضحكات ..ولكنه ضحك كالبكاء..
الاستاذ يوسف عبد الرحمن واحد من نوابغ خريجي الصحافة في دفعاتها الاولى ..اقتحم عالم الصحافة من اوسع ابوابها وهو يحمل على كتفيه امالا كبارا محصنة بمهنية عالية تلقفته يد خبيرة في الجمهورية منحته الفرصة طار مع أحلامه وحلق بها وحلقت معه ولحسن حظه كان مع استاذ كبير وصحفي خبير الاستاذ محسن محمد وأستاذ كبير آخر محفوظ الانصاري .. كان التوجه نحو الصحافة الجماهيرية التيار الاقوى وكان للجمهورية الغلبة والتفوق وصناعة التميز .. كان يوسف واحد ممن دعائم الإنطلاق .. بصفحة أكثر تميزا عن الموظفين.. وكانت الجمهورية الأكثر مبيعا وتوزيعا اقتربت من حاجز المليون نسخة !!
كنت مع بداية خطواتي في عالم الصحافة أرقب عن كثب ما يجري .. ومن اليوم الأول كانت لي معه حوارات ومناكفات ودودة استمرت حتى قبيل ايام من الرحيل المفاجئ..
من حسن حظي أننا تجاورنا في المكتب كان نائبا لرئيس التحرير وانا رئيسا لقسم التحقيقات.. كان متواضعا للغاية لم يشغله مكتب او منصب.. أو أية مظاهر مما كان يتملك المدعين والادعياء انصاف المواهب او ممن دخلوا الصحافة في غفلة من الزمن الرديء..
اقتربنا اكثر واكثر في رحلة الأوائل الى النمسا كان شريكي في غرفة واحدة بالفندق .. وفي السفر تظهر المعادن على حقيقتها بلا زيف او خداع
كان يمتلك روحا مرحة خفيفة وله ضحكته المميزة وتعبيره الاثير قبلها يا ابن الايه يا مجاهد .. رغم علامات الجدة والحدة البادية علي مظهره .. كان واسع الثقافة يحفظ كثيرا من الاشعار والازجال كان مغرما ببيرم التونسي وصلاح جاهين يحفظ المقطوعات الطوال .. ويحفظ الكثير من الأغاني الشعبية والفلكلور واغاني الحصاد كنت احب سماع المقطوعات الزجلية منه وكنت اناكفه كثيرا ..
اذكر في رحلة فيينا صعدنا معا جبل الشمس اعلى قمة جبل جليد لايذوب طوال العام تشرق عليه الشمس دائما احد المزارات السياحية المهمة صعدنا معا ذكرته بالانشودة الشهيرة : يوحه.. طلعنا الجبل..يوحة .. ننقي سبل .. سبل ما لقينا .. ويومها كان يوما مفعما بالحيوية والضحك .. واذا به ينادى على الأستاذ ناجي قمحة وهو أيضا من محبي الفلكلور وكانت نكتة.. كنا نغني معا على جبل الشمس..
لم يتوقف حوارنا المستمر حول المهنية وادعياء الصحافة والامراض التي ابتليت بها منذ حالات الاستقطاب الحادة ولعبة التوريث التي جنت على مصر والمصريين ..
ورغم ابتعاد يوسف القسري او القهري او الاحتجاجي سمه ماشئت الا انه كان مهموما بما يحدث كنا نتحدث بالساعات الطوال في المهنية واحوالها وما يجري في عالم الصحافة .. كان في فترة انقطاع كورونا يأتي الى الجريدة يوما او يومين نلتقى نتحاور نتناكف كالمعتاد كان هاجسا يطارده او يلاحقه لابد ان يلتقي الزملاء والأصدقاء لا يصح الانقطاع.. في الزيارة قبل الأخيرة اتفقنا على ان نلتقى مجموعة في مكان ما ..وبالفعل كخطوة عملية اتصل بالزميل العزيز الأستاذ محمد الشرقاوي وعرض عليه الامر وكان الاتفاق بالفعل على اللقاء في اقرب فرصة حين تسمح للجميع..وعلى ما يبدو فان هواجس الرحيل المنتظر كانت تلوح في الأفق او تؤرقه دون ان يدري المرء من امره شيئا فهو لا يعرف لا الى اين ولا متى ستكون الخاتمة..
بالإضافة الى حوارات المهنية واشباهها كانت الاحاديث التي لاتتوقف عن التدين المغشوش والمتدينين وتنطع المتنطعين.. وهموم أخرى..
رحيل يوسف المفاجئ دون سابق انذار رسالة الى كل المهمومين بعالم الصحافة واحوال المهنة وأهلها والخائفين عليها لعل في مقدمتها ماذا فعلتم بالكبار ولم تتركوهم يهاجرون الى عالم النسيان او الصمت الرهيب .. لاخير فيكم ان لم يكن لكم خير في كباركم ؟؟..
وتذكروا ان المشكلة مع الموت ليست في الفراق ولكن الخطورة في أنه يكشف ويعري ويفضح .. حتى كل ما كان مسكوتا عنه وعليه..
معذرة أستاذ يوسف .. فلم نعد نملك الا الدعاء بالرحمة والمغفرة وان يبدلك الله دارا خيرا من الدار واهلا خيرا منهم وان يوسع لك في قبرك ويحسن نزلك وضيافتك..
والى نلتقي في رحاب الله وفي رضوان جناته.. عزاء خالصا لاهلك ومحبيك وعارفي فضلك ..انا لله وانا اليه راجعون..
Megahedkh@hotmail.com