عجيب أمر هؤلاء الناس الذين يتعمدون إثارة الزعابيب وافتعال المعارك الجانبية فى مجتمع يبحث عن التآلف والتقارب بين فئاته المختلفة، ليتفرغ لحل مشاكله، وليعبر أزماته، ويتعافى من أمراض وعلل كثيرة ألمت به على مدى السنين .
هناك ألف ألف قضية فى بلادنا تحتاج أن نتحاور ونتجادل حولها، نتفق ونختلف حتى نصل إلى التوافق ووحدة الرأى والكلمة، وحتى نستطيع وضع الحلول الجادة المفيدة لهذه القضايا، ونواجه مشاكلنا بكل حسم مثلما تفعل المجتمعات الحية النشطة والأمم الناهضة، لكننا ـ للأسف ـ ابتلينا بأناس يستغلون شهرتهم وانتشارهم عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى فى شغل المواطنين بأمور خلافية، لاطائل من ورائها غير إثارة الفتن، وتأليب فئات المجتمع بعضها على بعض، الرجال على النساء والعكس، والأزواج على الزوجات والعكس، والمسلمين على المسيحيين والعكس، والأغنياء على الفقراء والعكس، والأهلوية على الزمالكوية والعكس، ناهيك عن نشر الكراهية والأحقاد ضد أصحاب المهن المختلفة، كالأطباء والمهندسين والمحامين ورجال الأعمال والمدرسين والصحفيين وغيرهم .
ماعليك إلا أن تفتح إحدى القنوات الفضائية على أحد برامج ” التوك شو”، التى تحولت إلى ساحات للاحتراب المجتمعى كل ليلة، وتظل تتجرع من هذا الاحتراب السخيف حتى يغلبك الإرهاق والضيق، فتجد نفسك خارجا من المعركة خاوي الوفاض، لم تستفد شيئا، ولم تضف إلى معلوماتك معلومة صحيحة مؤكدة .
وإذا كنت من هواة الفيسبوك وغيره من منصات التواصل عبر شبكة الإنترنت فسوف يصدمك الأصدقاء بمنشورات تغالى فى المدح والقدح، ترفع أقواما وتخفض آخرين، تستثير الغضب وتستمطر اللعنات، وتترك الحليم حيرانا، وفى النهاية تبيت ليلتك محملا بأثقال معارك جانبية، تملؤك بالغضب والكراهية من الحياة ومن الناس .
بعضهم يفعل ذلك متعمدا لإثارة البلبلة الدائمة ضمن مشروع خارجى تآمرى، هدفه تهديد الأمن والسلم الاجتماعى فى بلدنا، وبعضهم يستهويه استفزاز المشاعر بإثارة كل ماهو غريب ومريب، حتى يصير حديث الناس ليلا ونهارا، إرضاء لشهوة حب الظهور وغواية الشهرة .
من يصدق أن قضيتنا الأولى على مدى أسبوع كامل كانت عن : هل المرأة ملزمة بالعمل فى البيت وخدمة زوجها وأولادها من حيث النظافة وإعداد الطعام، أم أن الزوج ملزم بتوفير خادمة تقوم بهذه الأعمال، وتوفير مرضعة لأولاده أو دفع بدل رضاعة لزوجته إن أرضعت هى أبناءها، بدأ الجدل بمنشور صغير لدكتورة متخصصة فى الأمراض التناسلية، ثم دخل على الخط رجال ونساء وفنانون وكتاب وأزهريون وأزهريات، مؤيدون ومعترضون ومنظرون وباحثون فى الموضوع بجدية، لكن لم يفكر أحد فى الكيفية التى سيحصل بها الزوج على المال ليأتى بالخادمة، فى مجتمع فقير يعانى من البطالة وتدنى المرتبات وارتفاع تكاليف المعيشة .
وما زال السجال مستمرا، وما أظن أنه سيتوقف قريبا، وما أظن أن يصل إلى نقطة اتفاق، فهذا أمر غير مطروح أصلا، وما أظن أننا سنحصل من ورائه على أية فائدة، اللهم إلا المزيد من الشقاق.والشجار والانقسام .
قبل ذلك عشنا أكثر من شهر نلهث وراء أخبار المعركة الفاصلة بين المطربة الشابة ومطلقها، وقد كانت معركة متشعبة وممتدة، عشنا تفاصيلها لحظة بلحظة، منذ أن حلقت المطربة شعرها وإلى أن صارت ضيفة على برامج القنوات الفضائية تغنى وتبكى وتتحدى، مكايدة ومعاندة وإدانة لهذا الرجل الهلامى الذى تجرأ وطلقها بعد أن شغفها حبا .
وقس على ذلك التصريحات والمنشورات النسوية المحرضة من المذيعات والزعيمات : ” لو جوزك ضربك اضربيه ولو خانك خونيه “، ” اطلقى أو اخلعى وعيشى حياتك بحرية مع أولادك وصاحبتاتك وسيبك من الرجالة مالهمش أمان “، ” وظيفتك ومرتبك أضمن لك من جوازة الندامة “.
وليس ببعيد عن ذلك الفيديوهات المصورة لفنانة بملابس مكشوفة شبه عارية، وفنانة تؤدى رقصات خليعة، وفنانة تتفنن فى تدخين الشيشة .
وزاد الطين بلة أن اقتحم الشيوخ هذا السباق اللعين، فقال أحدهم فى برنامج تليفزونى مقولة لم يسبقه بها أحد، شغل بها البلاد والعباد وهو يقصد أن يشغلهم، فقد ورد على لسانه نصا : ” سأفجر مفاجأة، إذا لم يكتب للمرأة قائمة منقولات تقر بأن مافى بيت الزوجية ملك للزوجة وقع عقد الزواج باطلا وتبقى العلاقة بين الزوجين زنى ” !!!، وقال آخر : ” ثلاثة أرباع سكان مصر جايين من زيجات حرام “.
هذا غيض من فيض الغثاء الذى ينشر على الناس لشغلهم عن قضاياهم الحقيقية، وجرهم إلى معارك جانبية، يستنفدون فيها طاقاتهم وقدراتهم وأوقاتهم فيما لاطائل من ورائه .