ويتجدد اللقاء كل عام مع ميلاد الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وتتجدد الفرحة ، ويتجدد الحب ، فالاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو تجديد للعودة الصادقة إلى الرسول الأعظم والنبي الأكرم ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء بسيرته العطرة؛ لأن معرفة شمائله الحميدة وخصاله المجيدة تستدعي معرفته صلى الله عليه وسلم ، ليكون ذلك نوراً يضيء لنا طريق الحياة الطيبة ، والحق جلَّ شأنه يقول في سورة المؤمنون : (أمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونْ) ، فبكمال معرفته نكون من المتبعين ، وإن اتبعناه سنكون من المهتدين ، يقول جلَّ شأنه في سورة الأعراف: (…فآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَبِيِّ الأُمِيِّ الذيْ) يُؤْمِنُ بِاللهِ وكَلِمَاتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونْ )
وبمحبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نحظى بحلاوة الإيمان، فقد أورد الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار )
يقول الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه (جامع العلوم والحكم): “فمن أحبَّ الله ورسوله محبةً صادقةً من قلبه؛ أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكره الله ورسوله، ويرضى ما يرضى الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض.
وفي الحياة من أحبَّ إنساناً يكثر من ذكره، ويكثر ذكر محاسنه، فينبغي أن نعطر مجالسنا في كل وقتٍ وحينٍ بذكر مآثر النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته وأحواله وشمائله الحميدة وخصاله المجيدة وهذا الذكر هو الذي يهيج هذه المحبة ويبعثها، وكثرة الصلاة عليه والسلام تترك هذا المعنى حيث يقول جلَّ شأنه في سورة الأحزاب: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
يقول القاضي عياض في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى): اِعلمْ أنَّ مَنْ أحبَّ شيئاً آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه وكان مدعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى في سورة آل عمران: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
ومن محبته صلى الله عليه وسلم الفرح بمولده المبارك وهو مطلوب بأمر الله تعالى في القرآن الكريم حيث يقول جل شأنه في سورة يونس : (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم هو الرحمة المهداة، فقد قال الله تعالى في سورة الأنبياء :(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
يقول الشيخ الإمام عبدالله سراج الدين علّامة عصره وقطب زمانه : كان مولده صلى الله عليه وسلم محفوفاً بالإكرام الإلهي ، ومعنياً بالعنايات الربانية ، وقد أظهر الله تعالى عند مولده خوارق وغرائب، إرهاصاً لنبوته ، وتمهيداً لرسالته ، وإعلاناً بعظيم مرتبته ، وأن له صلى الله عليه وسلم شأناً كبيراً .
ولقد كان صلى الله عليه وسلّم يُعَظِّم يوم مولده، ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه ، وكان يعبّر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سُئل عن صيام يوم الإثنين؟ فقال (فيه وُلدتُ وفيه أُنْزِلَ عليَّ)
والاحتفال بالمولد النبوي الشريف يشتمل على اجتماع وذِكْرٍ وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي فهو سنة حسنة ، يقول الإمام الشافعي: ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك فهو المحمود.
وإحياء المولد النبوي الشريف من باب شكر النعم الإلهية، فإن من أعظم النعم التي تفضَّل بها الحقُّ جل شأنه علينا أن جعلنا من أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، حيث نَصَبَّنا الله سبحانه شهداء على الناس فقال أحكم الحاكمين في محكم تنزيله في سورة البقرة: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)
فالوسطية هي الاعتدال في كل أمور الحياة من تصورات ومناهج ومواقف، وهي تَحَرٍّ متواصلٌ للصواب في التوجهات والاختيارات، والوسطية ليست مجرد موقف بين أقصى اليمين وأقصى الشمال ؛ بل هي منهج فكري وسلوك أخلاقي ، فالحق جل في علاه يقول في قرآنه الكريم في سورة :﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
أي: والتمِسْ فيما آتاك الله من الأموال ثواب الدار الآخرة، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا، ولا تترك حظك من الدنيا، بأن تتمتع فيها بالحلال دون إسراف.
يقول الشيخ العلّامة محمد متولي الشعراوي في خواطره : فإذا كان ربنا يوصينا أن نبتغي الآخرة ، فهذا لايعني أن نترك الدنيا؛ لكن هذه الآية يأخذها البعض دليلاً على الانغماس في الدنيا ومُتَعِهَا وحين نتأمل (…وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا…)نفهم أن العاقل يجب عليه أن ينظر إلى الدنيا على أنها لاتستحق الاهتمام ؛ لكن ربه لفته إليها ليأخذ بشيء منها تقتضيه حركة حياته ، فالمعنى : كان ينبغي عليَّ أن أنساها ، فذكَّرني الله بها.
ويؤيد هذا التوجه القويم قول الحق جل شأنه في سورة البقرة : (…رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )
وأورد الإمام البخاري في صححه عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
وأورد الإمام البخاري في صحيحه أن أم المؤمنين السيدة عاشة رضي الله عنها قال: ماخُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قطّ إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه…..
والمتأمل لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم يدرك تمام الإدراك أنه شخصية فذة متفردة ، فقد رفع الله ذكره ، فلا يُذْكَرُ الله جلَّ شأنه في الأذان أوفي الإقامة أوفي الصلاة أو في أي حال من الأحوال إلا ويذكر سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم معه مقترناً باسمه ، والآيات كثيرة في القرآن الكريم التي وردت بذلك ، ومما يجدر ذكره أنه لا يؤمن ولايكون مسلماً من شهد : أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن سيدنا محمداً رسول الله .
و تكريم الله تعالى لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه تعالى أمر بعدم التسوية بين دعائه ودعاء غيره، فالواجب علينا أن نسوده صلى الله عليه وسلم أثناء الحديث عنه وفي الصلاة وفي الإقامة ، ولا نخاطبه باسمه المجرد تطبيقاً لأمر الله تعالى حيث نهانا عن ذلك فقال جل شأنه في سورة النور : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة من أعظم النعم التي أنعم الله تعالى به علينا فإنه حريٌ بنا حينما نتذكر هذه النعمة العظيمة أن نتذكر المنعم بها ونشكره عليها، وهذا الشكر يستوجب منا أن نتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقاً لقوله تعالى في سورة الأحزاب : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)
فما أعظم هذه النعمة وما أعظم المنعم بها علينا سبحانه وما أعظمك يا سيدي يا رسول الله وقد منحك الله تعالى ما لم يمنحه أحداً غيرك حيث رفع ذكرك وأعظم شأنك فوصفك في قرآنه المجيد في سورة القلم بقوله سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف شاهدٌ على الحب والتعظيم لمقام خير الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ علاوة على الفرح به والاستبشار بكل ماجاء به من عند الله تعالى ، وفي الوقت ذاته هو شكرٌ لله جل شأنه على هذه النعمة الكبرى التي شرَّف بها عباده المخلصين حين أرسله إليهم بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، والاحتفال ليس مشروعاً فحسب ؛ بل هو مستحب أيضاً ، وقد درج عليه المسلمون عبر العصور، واتفق علماء الأمة على استحبابه واستحسانه ، والأمة المحمدية لاتجتمع على ضلالة.