ما زلت أرفض مقولة رددها على مسامعي من أثق به “سوء الظن مقدم عندي على حسن الظن حتى يتبين طبيعة الشخص الذي أتعامل معه”، لأني أرى أن الأصل عكس ذلك .. ومن الطبيعي أن تطرأ على الإنسان تغيرات، وذلك نتيجة توالي تجاربه وتنامي معارفه، وهي تغيرات عادة ما تكون إيجابية، لأن ما يمر به يزيده صلابة وقوة وصبرا من جهة وحكمة وحنكة وقدرة على النظر واتخاذ القرار الصائب من جهة أخرى.. إننا لا نستطيع أن نقر أن هذه حقيقة إلا إذا كانت المجتمعات عادية وسلوكيات الأفراد فيها طبيعة، ومن ثم تكون العلاقات بين أعضائها سوية.
كانت وما زالت طبيعة العلاقات بين الأفراد مقياسا مهما للحكم على صحة المجتمع وقوته، ومن هنا كنا نضرب المثل بالمجتمع الريفي أو المناطق الشعبية في صحته اجتماعيا بقوة العلاقات بين أفراده وكأنهم عائلة واحدة، فما زالت الحكاوي عن ابن البلد- وبنت الحارة تملأ أذان أجيال الآباء والأجداد، تلك العبارات ومثيلاتها على بساطتها كل تحمل بين طياتها دلائل قوة وتلاحم وتعاون وتعاضد، كانت تمتد لتملأ وتصبغ المجتمع كله بأحيائه الراقية وأغنيائه..
إن مقولة “سوء الظن مقدم عندي على حسن الظن حتى يتبين طبيعة الشخص الذي أتعامل معه” على قسوتها وحدتها إلا أن هناك من تخطاها إلى الأسوأ نتيجة ووضعا فكثير منهم لا يثق بأي شخص مهما كان محلا للثقة، وسواء كان مصدر الثقة قرابة أو صداقة أو زمالة أو جيرة أو غيرها من العلاقات، فسوء الظن مقدم دائما عنده مهما تعددت المواقف التي تطمئنه، وأمثال هؤلاء يقسون ويتجاهلون ويشتكون ويعنفون دائما الشخص الخطأ (الطيب والمحترم والودود والمسالم والمتعايش..) ويحترمون ويوقرون ويقدمون من لديهم قدرة على إيذائهم أو بيان عوراتهم أو تخويفهم.. وكما قال أحدهم: إن تغير حال المجتمع من الصلاح إلى الفساد لا يحدث بين ليلة وضحاها بل هو فعل تراكمي لما تفعله الأجيال المتعاقبة، فلو أحسن الأجداد تربية الأبناء لصلُحَ الأحفاد.. وأظن أن الآباء والأجداد مظلمون في هذا، فحجم التغير في العلاقات وسرعته أمور لا يمكن تصورها في عصر الحديث!