في صيف عام 2006، وبينما كنت في ميلانو لإجراء بعض الفحوص الطبية في مستشفى “سان باولو”، خرجت من المبنى لأفاجأ بطابور طويل من عربات الجنود مصطفة أمامي، وكأننا على مشارف حرب أو انقلاب عسكري. لحظة تجمد فيها الزمن، وتسللت إليّ فكرة سوداء: هل دخلت إيطاليا نفقًا مظلمًا…؟
لكن سرعان ما تبيّن أن الأمر لا يتجاوز عملية انتشار أمني لقوات الجيش، استدعيت لضبط انفلات أمني عمّ المدينة مع حلول موسم العطلة الصيفية، حين يغادر السكان إلى المنتجعات، فتصبح المدن الكبرى، كميلانو، شبه خاوية، عرضة للفوضى والسرقة والنهب.
المثير للدهشة أن أحدًا من الإيطاليين لم يُبدِ امتعاضًا من الوجود العسكري المكثف في الشوارع، بل على العكس، استعاد كثيرون شعورًا بالأمان المفقود، وكأن الجيش لم يكن سوى طيفًا يُعيد الانضباط والنظام. لم ترتفع شعارات تُدين “العسكرة”، ولم تُطرح تساؤلات حول تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن المدني. فقد أدرك الناس أن الأمر لا صلة له بالسياسة، بل بالأمن، والكرامة الحضرية، والنظام العام.
لماذا، إذًا، حين تُطرح مثل هذه الإجراءات في بلداننا، كما حدث مؤخرًا في قريتنا الصغيرة، حين تقرر إشراف جهة عسكرية على مدرسة ثانوية لضبط الأداء ومنع التسيب، نجد من يعلو صوته مستنكرًا “العسكرة”..؟ لماذا لا نملك الشجاعة لمصارحة أنفسنا بأننا نعيش في فوضى مستشرية، تمتد من الشوارع المكتظة، إلى الطرق المتهالكة، إلى مدارس تحوّلت إلى ساحات صخب بلا ضابط ولا هدف…؟
ألسنا نحن من يشكو صباح مساء من غياب النظام…؟ فلماذا إذًا نرفض كل محاولة لبعث شيء من الانضباط في حياتنا..؟ أم أننا أسرى لصراع سياسي سطحي، نُسقطه على كل قرار تنظيمي، فنراه قيدًا للحريات، لا أداة للنجاة من التدهور…؟
كثيرون منا يرفعون شعار الديمقراطية، بينما يخفون في دواخلهم طغاة صغار، لا يحتملون رأيًا مخالفًا، ولا يتقبلون نقدًا، ولا يعترفون بوجود الآخر. ننادي بالحرية، لكننا نجهل حدودها، وننسى أن “حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين”.
أين جيل الحالمين ببناء وطن جديد..؟ أين العقول الشابة الحاملة لمشروع واضح يواجه طوفان الفوضى والتلوث البصري والسمعي الذي ينهش جسد مدننا وقرانا…؟ أم أن الجميع صار شريكًا في الصمت، أو مشاركًا في العبث..؟
إن ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من الشعارات، بل جرأة في الاعتراف بأن الوطن، قبل أن يحتاج إلى الديمقراطية، يحتاج إلى انضباط. وأن النظام لا يُناقض الحرية، بل يُمهد لها الطريق.
فهل نجرؤ..؟
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث مصري متخصص في الشؤون الجيوسياسية
