لا تُجيد إسرائيل فقط استخدام القوة بل تتقن استثمار الضعف حين تحتاج. هذه ليست مفارقة بل عقيدة راسخة في استراتيجية الاحتلال تتبدى ملامحها بوضوح في كل محطة من محطات صراعها الممتد ، من النكبة إلى غزة ومن جنين إلى جنوب لبنان.
فحين تكون في موقف القوة تُطلق يدها بلا تردد: تهاجم تُدمّر، وتفرض شروطها ، مستندة إلى دعم أمريكي غير مشروط وصمت دولي لا يقل عن التواطؤ. أما حين تواجه مقاومة حقيقية أو تجد نفسها في مأزق سياسي أو عسكري فإنها تتحول إلى كيان مسكون بلغة “السلام” و”حل الدولتين” و”ضبط النفس”، وتبدأ في تصدير صورة الضحية التي تحاول فقط الدفاع عن وجودها لا أكثر.
المشهد الحالي في غزة يُعيد إحياء هذه الثنائية الخبيثة. فبعد أكثر من نصف عام من الحرب فشلت حكومة نتنياهو في تحقيق أهدافها المعلنة: لم تتمكن من استعادة الأسرى ولا نجحت في إسقاط سلطة حماس ، بل وواجهت انتقادات داخلية متصاعدة وأزمات غير مسبوقة على جبهتي الشمال والداخل.
ومع تآكل الثقة الشعبية وتضاؤل صبر واشنطن ، يبدو أن نتنياهو لم يعد يبحث عن نصر عسكري بل عن وقت إضافي يشتري به بقاءه السياسي ويمنح شركاءه في واشنطن وتل أبيب فرصة لإعادة رسم المشهد الإقليمي. وما يجري ليس إلا محاولة لترسيخ وقائع على الأرض ، بالقوة حينا وبالمراوغة حينا آخر.
الخطير في كل ذلك أن هذا النهج لا ينفصل عن ما يُعرف بـ”الغموض الاستراتيجي” الذي تتبناه إسرائيل والدوائر العميقة في الولايات المتحدة. غموض لا يكشف نوايا حقيقية لكنه يُنتج سياسات تصعيدية تتخفى خلف شعارات مطاطة ، في وقت تُفرَغ فيه مفاوضات السلام من مضمونها، وتُعاد صياغة الأولويات الإقليمية لصالح مشروع أكبر: إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
في خضم هذا كله تزداد الحاجة العربية إلى فهم هذه المعادلة الإسرائيلية جيدًا: إسرائيل لا تُفاوض إلا حين تتألم ولا تُهادن إلا حين تتراجع. أما في وقت القوة فإنها لا ترى شريكا في السلام ، بل خصما يجب إخضاعه.
إن مواجهة هذا النموذج لا تكون فقط بالصمود العسكري أو الخطاب الإعلامي بل بتوحيد الموقف العربي سياسيا ودبلوماسيا والانتباه إلى أن المشروع الصهيوني لا يتوقف عند حدود غزة أو رام الله بل يمتد برؤى استراتيجية تتجاوز فلسطين لتطال موازين القوى في الإقليم بأسره.
لذلك فإن معركة غزة ليست فقط معركة الفلسطينيين بل معركة الوعي العربي: بين من يرى إسرائيل كما هي وبين من ينساق خلف قناعها المزيّف كلما أرادت أن تُعيد ترتيب أوراقها.