هناك مبدأ اجرائي تقليدي ، مستقر منذ عصر القانون الروماني ، وهو مبدأ ثبات النزاع القضائي ، ويعني هذا المبدأ أنه لا يجوز تعديل نطاق النزاع ، فإذا ما عرض النزاع على القاضي ، و بدأت الخصومة بعريضة الافتتاح التي قدمها الخصوم والتي هي بمثابة شكل للمطالبة القضائية ، فان الخصومة تظل هكذا كما حددها المدعي ، اي ان نطاق الخصومة كما رسمت حدوده المطالبة القضائية محلاً وسبباً وأشخاصاً يظل راسخاً حتى نهاية الخصومة دون تعديل – فلا يجوز تعديل نطاقها الشخصي عن طريق احلال من يعد من الغير محل أحد الخصوم أو إلى جانبه كما في حالة التدخل الاختياري أو اختصام الغير – فلا ينبغي ان يطرأ اي تعديل على هذا النطاق ، ويمتنع على القاضي والخصوم المساس به (1(.
وأساس هذا المبدأ فكرة رومانية قديمة تعد الخصومة عقداً أو شبه عقد قضائي ، ومضمون هذه الفكرة ان الخصوم حينما يرفعون دعوى أمام القضاء انما يرتضون حكم القانون كما يرتضون تطبيقه على نزاعهم بوساطة المحكمة طبقا لإجراءات التقاضي التي رسمها القانون (2)، اي ان العقد يتضمن تحديداً لنطاق النزاع الذي يعرض على القاضي ، وهو تحديد ملزم للخصوم والقاضي ايضاً (3) . ومن هذا المنطلق تجلت قاعدة عدم جواز تقديم طلبات جديدة في الخصومة المدنية القائمة كأصل عام ، ولا فرق بين هذه الطلبات التي تُعدل نطاق الخصومة سواء من حيث الأشخاص أو الموضوع .
وهذه الفكرة الرومانية التي تعد الخصومة عقداً أو شبه عقد يرفضها الفكر الاجرائي الحديث الذي بدأ يصور الخصومة على أنها مركز أو رابطة ذات أصل قانوني (4) ، و اصبحت هذه الفكرة مهجورة الآن ، وتلاشت منذ زمن بعيد (5) ، إذْ لا وجود للشبه بين العقد والاجراءات القضائية المكونة للخصومة (6) ، فالعقد يجب لانعقاده توافق إرادة المتعاقدين ورضاهم ، وهو ما لا يتحقق في الخصومة ، لأن المدعي يضطر للالتجاء للقضاء لعدم تمكنه من اقتضاء حقه دون تدخل القضاء ، ولو أنه استوفى حقه اختياراً لما لجأ إلى القضاء ، كما ان الخصومة تفرض على المُدّعى عليه بصرف النظر عن ارادته ورضاه (7).
وعلى الرغم من أن هذا المبدأ كان معروفاً في القانون الروماني منذ ظهور الاجراء المسمى بالإشهاد على الخصومة والذي بمقتضاه يتم تحديد عناصر النزاع ، الّا إنَّ هذا المبدأ لم يكن معروفاً في القانون الفرنسي القديم ، لان هذا القانون لم يشترط تحديد عناصر النزاع في عريضة الدّعوَى التي كانت تقتصر على مجرد تكليف الخصم بالحضور دون تحديد لعناصر النزاع ، ولكن منذ صدور مرسوم 1539 الذي استلزم ذكر موضوع الطلب واسانيده في عريضة الدّعوَى ، اصبح لمبدأ ثبات النزاع وجود في القانون الفرنسي ، وبمجرد رفع الدّعوَى للقضاء وتحديد عناصرها ، كان القاضي لا يقبل اي طلب جديد (8) وثبات الطلب يجري في مواجهة القاضي والخصوم سواء بسواء ، فالنزاع يجب ان يكون ثابتاً للخصوم لا يستطيعون التعديل في أركانه تجنباً لإعاقة سير الخصومة وتعقيدها بطلبات جديدة تقدم بعد بدئها ، واعمالاً لحق الدفاع ، إذْ ان اعمال هذا المبدأ يؤدي إلى جعل الأطراف بمنأى عن التغيرات التي قد تكون مفاجأة لهم ، من خلال الطلبات الجديدة التي تقدم بعد ان يكون قد استُعد للدفاع في نطاق الطلب الأصلي وحده (9). والواقع ان هذه الحجة مردودة بدورها ، لان منح المُدّعى عليه مهلة كافية يمكن ترتيبها من خلال تنظيم الاجراءات ، بمنحه مهلة محددة للرد على هذه الطلبات .
ومن جهة اخرى فان اي تطور لعناصر النزاع لا يعني بالضرورة عدم احترام حق الدفاع ، بل ان المفهوم المرن لمبدأ ثبات النزاع وما ينتج عن هذا المفهوم من امكانية قبول طلبات عارضة يؤدي إلى تحول المُدّعى عليه من مدافع إلى مهاجم ، إذْ قد يتقدم بطلبات يترتب عليها تفادي الحكم عليه بطلبات المدعي كما هو الحال في طلب المُدّعى عليه اختصام شقيق المدعي الذي قبض مبلغ الدين الذي سدده له ، فهنا يتم إدخال شقيق المدعي ويحكم عليه بطلب المدعي.
فضلاً عن إن الثبات المطلق للنزاع يضر بالمُدّعى عليه لأنه يحرمه من تعديل أو تغيير ما سبق أن استند إليه من الاسباب ، ولذلك فليس ثمة ما يمنع من تطور عناصر النزاع طالما يحاط الخصم الاخر بها ويمنح مهلة كافية لتحضير دفاعه احتراماً لمبدأ المواجهة (10).
كما أنه يترتب على المبالغة في احترام حقوق المُدّعى عليه في الدفاع ، التهديد بفقدان التوازن بين مراكز الخصوم لصالح هذا الاخير الذي يستفيد أكثر من المدعي فيما يتعلق بحرية الدفاع (11).
كما قيل ايضاً أنه يؤدي إلى احترام قاعدة التقاضي على درجتين وهي قاعدة أساسية في النظام القضائي ، فثبات النزاع أمام درجتي التقاضي يؤدي إلى تحريم تقديم طلبات جديدة أمام محكمة الاستئناف ، ومن ثم لا يحدث اي اخلال بقاعدة التقاضي على درجتين ، اما إذا لم يثبت النزاع أمام محكمة الاستئناف فان هذا يعني امكانية طرح طلبات جديدة أمام هذه المحكمة مما يشكل انتهاكاً لقاعدة التقاضي على درجتين واخلالاً بالنظام القضائي في الوقت نفسه (12(
ويرد على هذه الحجة بان نطاقها مقصور على محكمة الاستئناف ولا تصلح لتبرير ثبات النزاع أمام محكمة أول درجة (13) ، وليس ثمة ما يمنع من تطور للنزاع أمام محكمة أول درجة يعقبه ثبات جامد أمام محكمة الاستئناف احتراماً لقاعدة التقاضي على درجتين (14) ، فضلاً عن انَّ التمسك الشديد بقاعدة التقاضي على درجتين يؤدي إلى بعض المساوئ لذلك يتجه الفقه الاجرائي الحديث (15) وقانون المرافعات المدنية الفرنسي النافذ رقم (1123) لسنة 1975 إلى اعطاء الاستئناف مهمة جديدة وهي حسم كل عناصر النزاع بدلاً من العودة إلى محكمة الدرجة الاولى للفصل في بعض اجزائه حتى ينتهي الفصل في النزاع دفعة واحدة استناداً للمادة (555) منه ، وكذلك تحولت نظرة الفقه من اعتداد مبدأ التقاضي على درجتين بأنه يعد ضمانة قوية وأساسية لحقوق الخصوم في القرن الماضي إلى التضحية به في سبيل فكرة تطور النزاع ، ممّا ادى إلى النظر اليه اليوم باعتباره لا يتعلق بالنظام العام الّا في معنى أنه لا يحرم رغم ارادته من الحق الذي يترتب على هذا المبدأ (16). الا ان الامر مختلف في ظل القانون المصري إذ تعد قاعدة التقاضي على درجتين من النظام العام (17)
وقيل في تبريره ايضاً أنه يحقق سرعة الفصل في الدّعوَى حتى لا يأخذ الخصم من جواز ابداء طلبات جديدة ذريعة لتأخير الفصل في الدّعوَى (18) ، إذْ ان ثبات النزاع يمنع الخصوم من اعاقة سير الخصومة بطلبات جديدة تقدم بعد بدئها ، فلا يتخذ الخصم وسيلة ابداء طلبات جديدة ذريعة لتأخير الفصل في الخصومة ، وعدم جواز تغيير أشخاص أو محل الخصومة يسهل فض النزاع الأصلي (19) ، فلا يتغير نطاقه الذي حدد بناء على المطالبة القضائية ، ومن ثم لا تصبح الخصومة صراعاً يطول أجله و لا يسهل فضه (20) ، وقيل ايضاً أنه يؤكد مبدأ حياد القاضي ازاء النزاع المعروض عليه (21). ولكن رغم أهمية المبدأ ووجاهة بعض مسوغاته ، الّا ان المبالغة في اعماله تؤدي إلى نتائج غير مقبولة ، ولذلك بدأ الفكر الاجرائي الحديث وكذا التشريع الاجرائي الحديث يخففان من حدته (22). ولا شك في ان المبالغة في الاخذ بهذا المبدأ تؤدي إلى اصابة الخصومة بالشلل التام ، ” فالخصومة كظاهرة ديناميكية حية نشطة تأبى الثبات المطلق ، وما تتضمنه من روابط قانونية متنوعة ومختلفة الأطراف تستعصي على الجمود والسكون “(23).
كما ان اطلاق هذا المبدأ يفترض العصمة للخصوم ، وهم بشر غير معصومين من الخطأ ، إذْ يفترض هذا الاطلاق ان كل خصم من الخصوم قد عرض طلباته واسانيده وأوجه دفاعه عرضاً قانونياً صحيحاً منذ بدء الخصومة ، ومن ثم يظل الخصوم حتى نهاية الخصومة سجناء لطلباتهم التي قدموها في البداية ، وهذا ما يتناقض مع الواقع العملي ، فالتطبيق اليومي لإجراءات الخصومة يؤكد ان طلبات الخصوم عرضة للتطور خلال مراحل الخصومة المختلفة ” (24) .
وقد يؤدي الاخذ بمفهوم ثبات النزاع على اطلاقه ، إلى التضحية بمبدأ اخر وهو الاقتصاد في اجراءات التقاضي ، والذي يقتضي تصفية المنازعات المرتبطة بالنزاع الأصلي أو المتفرعة عنه (25) ، إذْ يمنع تصفية المنازعات المرتبطة بالنزاع الأصلي والمتفرعة عنه فتتكرر الخصومات وتتراكم مما ينتج عنه زيادة النفقات وضياع وقت القضاء والمتقاضين وارهاقهم ، كما ان تقطيع أوصال النزاع الناتج عن الاخذ بالمفهوم المطلق للمبدأ يؤدي إلى امكانية صدور احكام غير مطابقة للحقيقة والعدالة لعدم توفر عناصر النزاع الحقيقية أمام القاضي (26) ، وإلى امكانية صدور احكام متناقضة في النزاع الواحد المتقطع الاوصال ، فضلاً عن ان المفهوم المطلق للمبدأ يؤدي إلى الحد من سلطة القاضي في نظر النزاع ، وإلى حرمان الخصم من تقديم طلبات قد يتفادى بها صدور حكم لصالح خصمه ، فالغلو في اعمال مبدأ ثبات النزاع إذْاً ينتج عنه الاضرار بالخصوم والقضاء وبحسن سير العدالة (27).
ونظراً للمساوئ المترتبة على الغلو في اعمال مبدأ ثبات النزاع ، فان القوانين الاجرائية الحديثة اعرضت عن المفهوم التقليدي له الذي يعني الثبات المطلق للنزاع ، فأجازت قوانين المرافعات في العراق و مصر و فرنسا (28) تعديل نطاق الخصومة ، بأبداء طلبات عارضة اثناء سيرها ، ومن شأن هذه الطلبات تغيير نطاق الخصومة الأصلية من حيث الموضوع أو السبب أو الأشخاص (29) .
وينبغي فهم مبدأ ثبات النزاع بمفهوم واسع مرن ، ففكرة الثبات التي يتضمنها هذا المبدأ ينظر لها الفقه الاجرائي الحديث كفكرة نسبية (30) غير جامدة ، فالنزاع يحيا في الساحة القانونية حياة نشطة متحركة ، وفي كثير من الاحيان يتولد عن النزاع الأصلي أو ما يرتبط به منازعات اخرى ، مما يؤدي إلى تغيير ملامحه ، وهو ما يطلق عليه الفقه تطور النزاع (31).
اضافة إلى ذلك يرى بعض الفقه أن نظرية الطلبات العارضة التي من ضمنها اختصام الغير صممت كاملة كمحاولة من الفقه لإضعاف قاعدة ثبات النزاع القضائي (32) .
إلّا أنه من المستقر عليه الآن أن النزاع لم يعد جامداً في عناصره ، فمبدأ ثبات النزاع قد لحقته المرونة نتيجة تطور نظرية الطلبات العارضة ، بل يمكن القول : إن المبدأ الحديث في هذا الصدد هو تطور النزاع وليس ثباته ، إذْ اصبح من حق الخصوم ان يعدلوا من عناصر النزاع في حالات عديدة أمام محكمة اول درجة ، وكذلك الحال أمام محكمة ثاني درجة (33).
وبالمقابل لا يمكن مسايرة تطور النزاع إلى نهايته من دون أن يكون له حد ، لأن ذلك سوف يؤدي إلى وضع الخصوم والقاضي أمام سلسلة لا تنتهي من الطلبات الجديدة وتصبح الخصومة في نهاية المطاف عبارة عن ساحة يتبارى فيها عدد من الخصوم وتتباين افكارهم وتختلف مصالحهم ، مما يؤدي في النهاية إلى ان تتعقد الخصومة وتتشعب في عدة جوانب ، وهذا بدوره يقود إلى تأخر الفصل فيها ويضيع في النهاية الهدف المراد تحقيقه (34).