الإكراه ليس مقبولًا، وليس حلًّا لأي شيء، ولا سيما فيما يتصل بقضايا المعتقد، حيث يقول الحق سبحانه: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”، ويقول سبحانه: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”، ويقول تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”، ويقول سبحانه: “إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”، فلا إكراه في الدين، ولا قتل على المعتقد، ولا تضييق على الناس في أداء شعائرهم، فالتنوع سنة الله في خلقه، والأمم والدول التي آمنت بسنة التنوع والاختلاف وتعايشت معها هي أكثر الأمم والدول أمنًا وأمانًا واستقرارًا، أما الأمم والدول التي وقعت في آتون الحروب الدينية والعقدية والمذهبية فقد دخلت دوائر واسعة من الفوضى وعدم الاستقرار.
فحمل الناس كرهًا على تبني الأفكار والمعتقدات ليس حلًّا ولن يكون، كما أنه ليس من الحكمة ولا من العقل ولا المنطق ولا الدين محاربة الناس في معتقداتهم أو التعرض لها بسوء، فقد نهى القرآن الكريم عن ذلك، حيث يقول الحق سبحانه: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
مهمتنا هي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث يقول الحق سبحانه: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”، وأن نأخذ الناس بما أخذهم به نبينا (صلى الله عليه وسلم) من الرحمة ولين الجانب، حيث يقول سبحانه: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”، ويقول سبحانه: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”.
وهو ما طبقه نبينا (صلى الله عليه وسلم) واقعًا عمليًّا في كل معاملاته مع المسلمين وغير المسلمين، ومن أبرزها وثيقة المدينة التي أكدت أن يهود بني عوف ويهود بني جشم، ويهود بني ساعده، ويهود بني النجار، وسائر اليهود بالمدينة مع المؤمنين أمة، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، في وثيقة هي الأعظم في التاريخ الإنساني في مجال التعايش السلمي وفقه العيش المشترك بين الناس جميعًا.
ليس الحل في محاولة ثني الناس عن معتقدهم أو النيل منها، أو محاولة ازدراء هذا المعتقد أو ذاك، إنما هو في الاحترام المتبادل مع الآخر والمختلف، واحترام آدميته وإنسانيته من منطلق أن الإنسان أخو الإنسان أينما كان بغض النظر عن دينه، أو مذهبه، أو عرقه، أو جنسه، أو معتقده.
الحل في ترسيخ أسس المواطنة، وتعميق العلاقات الإنسانية، وتعظيم المشترك الوطني والإنساني، والقيمي والأخلاقي، فالناس بفطرتهم النقية يلتقون على جملة واسعة من القيم والأخلاق، كالصدق، والأمانة، والوفاء، والتراحم، والعدل، وبر الوالدين، وإكرام الجار والضيف، وعدم الاحتكار أو الاستغلال أو الغش، أو الأذى قولًا أو فعلًا، والشاذ في ذلك لا يقاس عليه.
وقد أجمعت الشرائع كلها على جملة من القيم لم تختلف في شريعة واحدة منها، وهي ما جاء في قوله تعالى في سورة الأنعام: “قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”، وكان سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) يقول: هذه آيات محكمات لم تنسخ في أي ملة من الملل أو شريعة من الشرائع.
وقد تبنت وزارة الأوقاف منهج الإقناع العلمي والعقلي، والتركيز على ما يجمع ولا يفرق من المشترك الأخلاقي والقيمي والإنساني، والبعد عن كل ما يثير جدلًا أو خلافًا، والنأي بالمساجد عنه، باعتبار أن المسائل العلمية الجدلية مكانها قاعات البحث العلمي، ولا ينبغي أن نشغل عامة الناس بها، إذ ينبغي أن نركز في خطابنا على ما ينفع الناس في معاشهم ومعادهم، في أمور دينهم ودنياهم، وهو ما ظهر أثره واضحًا وثمرته جلية في التفاف الناس بقوة حول أئمة الأوقاف وواعظاتها وأنشطتها وفاعلياتها الدعوية والتثقيفية.
فهيا بنا لنعمل معًا على كل ما يجمع ولا يفرق، ويبني ولا يهدم، ويستهدف صالح الإنسان كونه إنسانًا يستحق الإكرام، بغض النظر عن دينه أو لونه أو جنسه أو عرقه أو لغته.