لكل مرحلة فى تاريخ الأمم تحدياتها ومعاركها، وأظن أن التحديات الكبرى التى تفرض نفسها علينا فى هذه المرحلة هى مواجهة الغزو الفكرى الآتى من الغرب محملا بمفاهيم وتقاليد فاسدة مفسدة، والحفاظ على خصوصيتنا الدينية والثقافية والاجتماعية، حتى لا نتحول إلى تابعين ضائعين كما يراد لنا .
ومنذ أن بدأنا الاحتكاك الحضارى “الحقيقى” مع الغرب مطلع القرن التاسع عشر، نبهنا جدنا الكبير رفاعة رافع الطهطاوى فى العديد من كتبه، وأشهرها ” تخليص الإبريز فى تلخيص باريز “، إلى أهمية أن ننهل من إنجازات الأوروبيين العلمية والإدارية، ونحذر الانسياق وراءهم فيما وصلوا إليه من فساد أخلاقى وقيمى، انعكس على حياتهم الاجتماعية فأفسدها .
هذه النصيحة الغالية كان يجب أن تظل دستورا لنا فى مسيرتنا نحو التحضر والتمدين، فنأخذ من الغرب العلم والتطور التكنولوجى والانفتاح العقلى والانضباط المنهجى، وندع ما دون ذلك من موبقات يرفضها ديننا، وتأباها أعرافنا، لكن الذى حدث ـ للأسف ـ أننا لم نكن جادين فيما نسعى إليه، فقد أخذنا من الغرب قشور العلم، دون أن نتعلم العلم، ودون أن نكون عنصرا فاعلا ومشاركا فى ركب التطور العلمى، وانغمسنا فى التشبه بالغربيين فى الحياة الاجتماعية، فتغربنا فى المأكل والملبس، وبالغنا فى تقليد أسلوبهم فى الحياة، وظننا أننا قد تحضرنا لمجرد أن صرنا ـ على سبيل المثال ـ نأكل مثلهم باليد اليسرى .
أهملنا العلوم الطبيعية والتقنية ونقلنا عنهم بكل جدية مذاهبهم الفلسفية ونظرياتهم الاجتماعية والاقتصادية ( الرأسمالية والماركسية والداروينية والفرويدية والوجودية والعلمانية)، بل تحزب بعضنا لهذه النظريات أكثر من تحزب أصحابها، وكأنها من إبداعاتهم، وفى النهاية أصبحنا مجرد مقلدين ومستهلكين لمنجزهم الحضارى دون أن نشارك فيه، ودون أن نحقق منجزا حضاريا خاصا بنا، كما فعلت اليابان والصين والهند وكوريا وغيرها من الأمم التى بدأت مرحلة النهضة الحديثة معنا .
هل كان ينقصنا الوعى الكافى لنفرق بين ما نحتاجه من جوهر الحضارة ومتطلباتها وما يقدم إلينا من قشور الحضارة للاستهلاك فقط، أم أن موجات الغزو الفكرى كانت أعتى من قدرتنا على التصدى والمقاومة؟!
يبدو لى أن الغرب اكتشف أهميتنا الجيوجغرافية قبل أن نكتشف نحن أهميته الحضارية، وعندما دخلت الدولة العثمانية مرحلة الاضمحلال، وبالتحديد فى أواخر القرن الثامن عشر، فكرت كل من فرنسا وبريطانيا فى غزونا، والسيطرة على منطقتنا الحيوية، ولكن بمفهوم جديد يختلف عن مفهوم الحروب الصليبية، مفهوم يعمد إلى تغييرنا من الداخل، لنصبح تابعين للغرب سياسيا وحضاريا وثقافيا وفكريا، ودينيا أيضا، وبعد فشل حملتى بونابرت وفريزر تم التخطيط للسيطرة على بلادنا بوسائل مستحدثة، كان أهمها الإرساليات التبشيرية والمدارس الأجنبية حتى وصلنا إلى الاستعمار الكامل .
وقد مرت تجربتنا مع الاستعمار الحديث بمراحل ثلاث، الأولى مرحلة الغزو المباشر الذى واجه مقاومة وطنية شرسة فى الدول التى اعتبرها الاستعمار ركائز أساسية لوجوده فى المنطقة، مصر وليبيا وسوريا والجزائر والعراق والمغرب، وانتهت هذه المرحلة بحصول جميع الدول العربية على الاستقلال فى سبعينيات القرن الماضى، ومع الاستقلال بدأت المرحلة الثانية حتى انتهت مع نهاية الألفية الثانية، واعتمدت على صناعة نخبة ثقافية وفكرية تابعة تبعية كاملة ومباشرة للغرب، ثم جاءت المرحلة الثالثة التى نعيشها إلى اليوم، وهى مرحلة تغيير الشعوب وإلحاقها بالنموذج الغربى، بعد أن تم إلحاق النخبتين، الثقافية والفكرية .
والعنوان الأبرز لهذه المرحلة ” الثالثة ” هو ضرب القيم الدينية والاجتماعية التى بقيت من خصوصيات الشخصية العربية، فبعد سيطرة الثقافة الغربية على النخبة جاء الوقت حاليا لفرض سيطرة القيم الغربية على الشعوب، حتى يصبح العالم العربى نسخة من المجتمعات الغربية ولكن بلغات مختلفة، والسبيل إلى ذلك هو التشكيك الدائم فى ثوابت الأمة، وتقويض هذه الثوابت، حتى تصير أمة هشة مقطوعة الأصول والجذور، لديها قابلية سهلة للتحول إلى التبعية والذوبان .
ووفقا لما يقرره علم الاجتماع السياسى فإن تدمير أية أمة من الداخل يعتمد على عناصر ثلاثة : تحقير الماضى والتراث، وكراهية الحاضر، واليأس من المستقبل، وهذا بالضبط ما تعمل عليه آلة الغزو الثقافى التغريبى فى هذه المرحلة عبر الإلحاح الإعلامى، وبعقول وأقلام وأفواه وكلاء صنعوا بعناية فائقة ليؤدوا المهمة بلا أدنى حياء، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
اليوم تحاصرنا وسائل الإعلام وبرامج الفن والترفيه برسائل مكثفة تضرب بعنف فى ثوابت الدين من زوايا مختلفة، وتحقر التراث، وتستهين بقيم المجتمع، وتروج للشذوذ والعلاقات غير المشروعة، وتستخدم فى ذلك عناوين براقة، تسمى الأشياء بغير أسمائها المعروفة حتى لاتصدم الناس فينفرون منها، وتعمل جاهدة على تقويض مفهوم الأسرة، باعتبارها آخر قلعة بقيت لها خصوصيتها فى العالم العربى، ويجرى العمل على قدم وساق لإلحاقها بالنموذج الغربى، باسم التمدين والتحضر الزائف.
فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى كانت تونس بورقيبة نموذجا سيئا للتغريب فى مجال قوانين الأسرة، وكان العرب جميعا ينتقدونه ويرونه مسخا خارجا عن الأعراف العربية والإسلامية، واليوم صار النموذج التونسى هو مقياس الدخول إلى الحداثة .