ما يحدث في عالم الألبان واللحوم شيء غريب مثير وعجيب على كافة الأصعدة..والأغرب أن يحدث في بلد زراعي في المقام الأول مثل مصر بما لها من تاريخ طويل وعريض في دنيا الفلاحة ومعها عالم الإنتاج الحيواني..
القفزات السريعة والمتتالية للأسعار في الأيام الأخيرة بصورة لا تكاد تصدق حتى تجاوز سعر كيلو الجبن الابيض المائة جنيه والرومي ١٦٠ جنيها ..كشفت الكثير من العورات في هذا القطاع والخلل الحقيقي في العناية بالانتاج في اللحوم والألبان.
من المحزن أن يكون نصيب الفرد في مصر من الألبان ٢٣ كيلوجرام سنويا في الوقت الذي يصل فيه نصيب الفرد عالميا إلى مائة كيلوجرام بينما نصيب الفرد في امريكا ١٨٠ كيلو!!
لاشك ان العشوائيات تضرب بقوة اركان المشروع الكبير والخطير..عشوائيات في مشروعات التسمين وإنتاج الألبان باستثناء المجمع الكبير الذي افتتحه الرئيس السيسي في مدينة السادات ويتبع جهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة ومشروع البتلو التابع لوزارة الزراعة وهو مشروع تعرض لعواصف وانواء فينشط حينا ويخمد ويخفت احيانا كثيرة.
التراخي في العناية بقضية زيادة الإنتاج وضرورة الارتقاء بالمنتج المحلي ظهرت خطورته بعد التوجه الكبير في الاعتماد عليه مع ارتفاع سعر الدولار والعملات الصعبة وعدم قدرة بعض الشركات على توفير مستلزمات الإنتاج المختلفة من مواد خام لازمة لصناعة الأجبان وغيرها من الصناعات المعتمدة على الحليب بودر أو طبيعي ..وفقا لبيانات غرفة الصناعات الغذائية هناك فجوة بين الاستهلاك والانتاج في الألبان تصل إلى ٢.٥ مليون طن سنوياً..وتبلغ قيمة فاتورة الاستيراد لتعويض الفرق إلى مليار دولار!
لا ننكر وجود افكار ومحاولات تؤكد الإدراك والوعي بأهمية القضية وخطورتها وتأثيراتها المباشرة على الحياة اليومية للمواطنين..لكنها لم تتجاوز مرحلة التجريب أو الفكرة أو سرعان ما تعرضت للانهيار..
استوقفني حديث السيد الرئيس السيسي ومناقشاته الجادة والعميقة مع أصحاب مشروعات انتاج الألبان واللحوم ولمس الرئيس بالفعل الخطأ الجوهري والاستراتيجي المتأصل في البيئة المصرية وقصور الفكر فيما يتعلق بالانتاج الخاص بالالبان من ناحية واللحوم من ناحية أخرى ..
لابد من الاعتراف أن كثيرا من المربين والمنتجين بعيدين تماما عن الأساليب العلمية الحديثة على هذا الصعيد وان المدارس القديمة والتقليدية لاتزال هي الحاكمة والمسيطرة في المشروعات الصغيرة على مستوى الأفراد في القرى والنجوع ويتم إهدار جزء كبير من الثروات والانفاق بدون عائد يذكر أو على الأقل ذا قيمة تنعكس على الحياة العامة والخاصة بصورة إيجابية.
هنا تبرز أهمية قضية الوعي بالابعاد والجوانب المختلفة للقضية. واضح أن الموضوع مرتبط بالثقافة العامة في البيئة المصرية عموما ومنهج التربية والعناية بالحيوان والاقتصاديات الحقيقية لتربية الماشية وكيفية تنميتها وتطويرها وتحقيق أعلى فائدة ممكنة ليس فقط بأقل التكاليف والمجهود ولكن بنفس التكلفة والمجهود المبذول وبعوائد اقتصادية مضاعفة.
معظم الفلاحين لديهم مشكلة عويصة في العلاقة مع ماشيتهم تعكس خوفهم وتعلقهم بها والحفاظ عليها.فالشعب المصري عشري – بكسر العين – وعاطفي أكثر من اللازم حتى مع الحيوانات.الارتباط العاطفي هذا عقبة كبيرة أمام الفكر الاقتصادي الصحيح وحسابات المكسب والخسارة والعائد مقابل النفقات. فتجد الرجل متمسك بماشيته ولايفرط فيها وتكلفه الكثير ولا تدر لبنا بالقدر المطلوب اوحتى المتوسط .ومع ذلك يتمسك بها باعتبارها أما بقرة جده أو والده أو من ريحة الحبايب اوقدم الخير ووش السعد أو أن لها ذكرى كذا وكذا.وهي توجهات لاتغني ولاتسمن من جوع !
أطراف كثيرة تتحمل المسؤولية على هذا الصعيد خاصة الإرشاد الزراعي والخدمات البيطرية وايضا الجهات وثيقة الصلة بالاستثمار في هذا القطاع بالغ الأهمية والحيوية.
فمن الصعب أن نترك الفلاح البسيط وحده في مهب الريح أو للتجارب العشوائية والمحاولات الفردية والعنترية في التقليد ومحاكاة تجارب بلا وعي حتى يفاجأ بضربات موجعة قد تأكل الاخضر واليابس ويجني الحسرة والإحباط .. فضلا عن الانتكاسات بسبب القصور والاهمال في الرعاية الصحية البيطرية في حالة انتشار مرض ما في الماشية..
اذا كان الجانب الثقافي ومحاولات تعديل السلوك وتقويم الاتجاهات والتوجهات مهمة للغاية فهناك أمور لا تقل أهمية لابد من توافرها لتكتمل عناصر اهم مشروع قومي يجب أن يكون الهم الأكبر لكل من يعنيهم الأمن الغذائى للشعب بل والاقتصاد القومي بصفة عامة إذ الامل إلا يتوقف الأمر عند حدود الإنتاج والاكتفاء الذاتي بل فتح نوافذ للتصدير ووضع حد لعمليات الاستيراد المكلفة والمراهقة للموازنة العامة ..
في المقدمة بعد توفير الدعم والتمويل المناسب.. لابد من العناية بالمصادر الآمنة للاعلاف والتغذية عموما وبأسعار مناسبة ما يعني إقامة مصانع الاعلاف والاهتمام بالزراعات والعناصر المغذية لها حتى لا تتعرض مشروعات التربية بأنواعها إلى هزات من اي نوع.
توفير مراكز خدمة بيطرية مناسبة وعلى مدار الساعة..
حملات توعية مستمرة سواء للتطوير أو لمواجهة أي خطر من اي نوع وكذلك للرد على استفسارات المربين ومساعدتهم في حل مشكلاتهم.
اختيار سلالات متميزة غزيرة الإنتاج. تكون مناسبة للبيئة والأجواء المصرية ولقدرات الفلاح. وهذه قضية مهمة لأن هناك سلالات بالفعل تعطي إنتاجا غزيرا يفوق الاربعين لترا يوميا الا أنها قد تكون غير مناسبة للأجواء المصرية.
أعتقد أن مراكز البحوث قطعت أشواطا مهمة على هذا الصعيد ووقع الاختيار على نوعيات وفصائل معروفة سواء الخاصة بإنتاج اللحوم أو الألبان وتعطى إنتاجا وفيرا ومضاعفا يفوق السلالات المصرية. وايضا الأنواع المشتركة التى تحقق الهدف المزدوج سواء التسمين أو الألبان.
إقامة مراكز للتسويق ومعامل للانتاج مسألة مهمة جدا لاستيعاب الحركة وتفعيل الجوانب الاقتصادية والاستثمارية القائمة عليها..
المحور الأهم في هذا المشروع القومي الكبير والذي لا يجب أن يغيب عن الأذهان هو الإدارة ..لا يمكن أن يترك الأمر للعشوائية والارتجالية لمن يريد ومن لا يريد .. لدينا تجارب لبعض الجمعيات الخيرية طرحت مشروعات مثل الجاموسة العشار أو عجول الاضاحي أو حتى مشروعات لجهات حكومية لكنها كانت محدودة من ناحية أو نفسها قصير لا تستمر طويلا تنشط الفكرة وتلقى حماسا في البداية الا انها سرعان ماتخمد وتنزوي بعيدا..
الأمر يحتاج خطة ومنهج واضح وأهداف معلومة للتحدي داخليا وخارجيا فالإدارة الخاصة والإشراف على مشروعات الإنتاج ضمان نجاح وتأكيد وتشجيع وحماية للجميع والأهم دعم الاستمرارية وبقاء الحيوية.
اذا كانت هيئة المشروعات الوطنية قدمت لنا نماذج في مشروعات عملاقة في السادات والفيوم وغيرها فلماذا لا تتخذ جهات مثل وزارات الزراعة والاستثمار والأوقاف ايضا والبنوك خاصة بنك التنمية والائتمان الزراعي وغيرها خطوات جادة لتبني مشروعات خاصة بالأمن الغذائي عموما وإنتاج اللحوم والالبان خصوصا وكلها مضمونة اقتصاديا ومطلوبة وطنياً..
اعادة الاعتبار للاجبان المصرية وخاصة الدمياطي باتت ضرورية بعد أن فقدنا التميز في واحدة من أهم المنتجات العالمية وكان لها سمعة دولية طيبة وهي تجربة تؤكد أننا قادرون إذا اردنا على المنافسة والتميز والمزاحمة في أسواق تحتكرها دول صغيرة جدا ولكنها حققت مكانتها بل وتقيم حضارتها على قوالب من السمن والجبن المطبوخ !!
والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com