برحيل الناقد الكبير الأستاذ الدكتور صلاح فضل اليوم (1938/ 2022)، تفقد الحركتان الإبداعية والنقدية واحدًا من أكبر نوابغها بامتداد ما يزيد عن نصف قرن، وأفقد، بشكل شخصي، صديقا عزيزا وأخًا أكبر أكرمني كثيرًا بمحبته واقتراحاته ونصائحه الثمينة.
صافحت اسم صلاح فضل للمرة الأولى مطلع الثمانينيات على ما أذكر، حين عرض المسرح القومي مسرحية (القصة المزدوجة للدكتور بالمي) تأليف الكاتب الأسباني انطونيو باييخو، لأنها ترجمة صلاح فضل. العرض كان ممتعًا جدًا، حيث لعب أدوار البطولة كل من عزت العلايلي ومحسنة توفيق وتوفيق الدقن، وقد أخرج هذا العرض المدهش الدكتور نبيل منيب الذي كان يعطينا دروسًا في فن المسرح نحن الشباب أعضاء نادي المسرح المصري الذي أسسته السيدة سميحة أيوب في ذلك الوقت.
أعجبتني الترجمة كثيرًا فطاردت ما يكتبه صلاح فضل، ثم قرأت له بعد ذلك قبل أن ألقاه، ففتنني أسلوبه العربي الفصيح وعباراته الرصينة الممتعة، فضلا عن صبواته النقدية الجسورة، وأفكاره الجريئة في التعامل مع النصوص السردية والشعرية، فلما التقيت به قبل ربع قرن تقريبًا انزرع شجر التواصل بيننا بيسر ومحبة، وظل هذا الشجر ينمو ويزهر محافظا على حيويته وعنفوانه من عقد إلى آخر.
من حسن الطالع أنني التقيت الراحل الكبير الدكتور صلاح فضل في مدن مصرية وعربية عديدة، فجمعتني به لقاءات كثيرة في القاهرة والأسكندرية ودبي وأبوظبي والفجيرة والكويت وصنعاء وغيرها، كما دارت بيني وبينه حوارات طويلة معمقة في الأدب والفكر والنقد والفن والدين والسياسة وثورة يناير ومصيرها ومستقبلها، وأشهد أنه يملك عقلا منضبطا مرتبًا ينهض على منظومة فكرية متماسكة قادرة على الغوص في الأعماق لتفكيك الظواهر الاجتماعية والسياسية رغم تناقضاتها وتشابكاتها المعقدة، وأشهد مرة أخرى أنه كان خفيف الظل بشكل مدهش يلتقط المفارقة ويصنع أختها بذكاء وسرعة، فتنهمر الضحكات من صدورنا مجلجلة يسمعها ويسعد بها من يجلس حولنا في المطعم أو في المقهى أو في بهو الفندق أو حتى في مكتبي بدبي الثقافية.
حكى لي الدكتور صلاح وقائع لقائه الوحيد مع عباس العقاد، عندما أتى إلى القاهرة ليلتحق بكلية دار العلوم، فذهب إلى الصالون الشهير للرجل، ولأنه ريفي خجول، كما قال لي نفسه، فقد اتخذ لنفسه مجلسًا في آخر الصالون، وبعد تردد شديد قرر أن يسأل الأستاذ العقاد عن أمر يحيره كثيرًا، وهو أن جدّه، جد صلاح، وهو العمدة المهاب في قريته، كان يقول لحفيده إنه متزوج من نساء الجن ويدلل على ذلك بالمواقف والوقائع والأحداث التي تثير خيال الصبي صلاح آنذاك، وتبث في صدره الشكوك والحيرة والقلق.
المهم… استثمر صلاح فضل وجوده في صالون العقاد، وتجرأ وسأله: (يا أستاذنا… هل هناك جن بالفعل؟ وهل يمكن لرجل أن يتزوج من نساء الجن كما كان يقول لي جدي؟) فضحك العقاد وأجابه: (يا مولانا… وهل انتهينا من مشكلات الإنس، لنلتفت إلى مشكلات الجن؟).
أذكر في عام 2006، وكنا في صنعاء، أن تفضل الدكتور صلاح مشكورًا وزارني في غرفتي بفندق سبأ، حيث كنا ضيفين معًا على وزارة الثقافة اليمنية بقيادة معالي الوزير المثقف الكبير خالد الرويشان، وطلب مني الاطلاع على أحدث عدد من (دبي الثقافية)، فرجوته أن ينضم إلى كتابها، فوافق وسألني: (كم ستخصص لي مكافأة شهرية؟)، وقبل أن أجيب بادرني قائلا: (المجلة متفردة بحق يا ناصر، ولكن عندي شرط وحيد. صحيح أنتم استطعتم أن تستكتبوا كوكبة معتبرة من المبدعين المصريين والعرب أمثال رجاء النقاش وأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي وإبراهيم الكوني وفراس السواح وغيرهم، ولكن شرطي الوحيد هو: ألا يتقاضى أي كاتب من هؤلاء الكبار مكافأة أكبر مني ولو بمليم واحد؟)، ثم ابتسم وأضاف: (حتى لو ستخصص لي جنيهًا واحدًا، فسأشارك معك، بشرط أن يكون هذا الجنيه هو أعلى مكافأة يحصل عليها أي كاتب معكم).
الحق أقول لكم، لقد أعجبني جدًا اعتداده بعلمه وثقافته واسمه الكبير، ووعدته بتنفيذ رغبته، وحاولت أن أفي بالوعد قدر المستطاع. وبعد فترة وجيزة رجوت الدكتور صلاح أن يرتب لي لقاء مع الناقد المغربي الكبير الدكتور محمد برادة لأعرض عليه الانضمام إلى كُتّاب دبي الثقافية، وهو ما كان بالفعل، حيث التقينا نحن الثلاثة في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وهكذا تم الاتفاق بين الدكتور برادة وبيني.
أذكر أيضًا أنني دعوته لإلقاء محاضرة عن الشعر والثورة وأم كلثوم في مؤسسة (ندوة الثقافة والعلوم) بدبي في أواخر مارس 2011، حيث كنت أعمل بها منسقا ثقافيًا وإعلاميًا آنذاك، وبالفعل جاء وأشعل القاعة بمعلوماته وتحليلاته وأدائه المدهش، فتلقى المزيد من الإعجاب والاستحسان من جمهور عربي متنوع ومتلهف.
في فبراير 2010 غادرت موقعي في دبي الثقافية، المجلة التي أسستها مع الشاعر الإماراتي الكبير الأستاذ سيف المري، وعدت إلى القاهرة، فالتقينا في مكتبه بجامعة عين شمس وتحدثنا كثيرًا عن الأحوال، وعن خططي المستقبلية، وبعد يومين فوجئت باتصال تليفوني منه يسألني إن كنت أوافق على الذهاب إلى البحرين لتأسيس مجلة ثقافية هناك؟ وقبل أن أجيب أخبرني: (اسمح لي يا ناصر… سأعطي رقمك للأستاذ محمد البنكي وكيل وزارة الثقافة في البحرين، وهو إنسان فاضل وتلميذي أيضًا، حيث نال الماجستير من جامعة عين شمس تحت إشرافي، وهو حاليًا موجود في القاهرة وسيتواصل معك).
وبالفعل، تواصل معي الأستاذ البنكي، والتقيته في فندق الفور سيزون بالقاهرة، وتم الاتفاق بيننا سريعًا، ثم قدمني إلى الشيخة مي وزيرة الثقافة والإعلام بالبحرين ساعتئذ، وما إن غادرت إلى البحرين في 7 مارس 2010، حتى فاجأني الرجل بأنهم في حاجة عاجلة إلى تأسيس (جائزة البحرين لحرية الصحافة) التي أطلقتها السيدة الوزيرة قبل عام، ولم يتم حتى الآن اتخاذ أية إجراءات بصدد إنجازها. المهم، شرعت على الفور في وضع لائحة للجائزة وتشكيل مجلس أمناء برئاسة معالي الوزيرة، واخترت الدكتور صلاح فضل ضمن المجلس، فوافق مرحبًا.
وهكذا التقينا في البحرين عندما دعوت إلى عقد أول جلسة لهذا المجلس لمناقشة اللائحة وشروط الجائزة واختيار لجنة التحكيم إلى آخره. وأشهد أن معالي الوزيرة والجميع تعامل مع الدكتور صلاح بتوقير واحترام ومودة لافتة.
لكن الأستاذ محمد البنكي أصيب بالسرطان، وذهبت مع الدكتور صلاح لزيارته في المستشفى، وبعد عدة أيام رحل الرجل، فحزن عليه الدكتور صلاح، وكل من في البحرين أشد الحزن، ولما أنهيت كل شيء عن الجائزة وأقمنا حفلا كبيرًا لإعلان اسم الفائز، وكان الدكتور خالد منتصر، غادرت البحرين في منتصف مايو وفي قلبي يصهل الحزن على رحيل الأستاذ البنكي.
حكى لي الدكتور صلاح فضل أيضًا عن تجربته الثرية عندما كان مستشارنا الثقافي بسفارتنا بأسبانيا، وكيف أنه استضاف كابتن لطيف وأجرى معه لقاء حارًا حول كرة القدم، وهل هي تلهي الناس عن الثقافة؟، بل اتهمه، ضاحًا، بأنه أحد الذين أبعدوا الجموع عن الشان الثقافي. كما تحدث معي عن تجربته مع الروائي العالمي ماركيز، وكيف أنه أجرى معه لقاء طويلا، قبل أن يفوز بجائزة نوبل، حول الأدب وفنونه.
واظب صلاح فضل على الكتابة معنا بانتظام في دبي الثقافية عدة سنوات، وقد اختار بنفسه العنوان الثابت الذي سيضع فيه مقاله وهو (عين النقد)، وكان يرسل لي مقاله بخط يده عبر الإيميل، وكان خطه رقيقا جميلا يتكئ على فنون خط الرقعة.
في السنوات القليلة الفائتة تعرض الرجل لمحنة مرعبة، حيث فقد ابنه، ثم بعد عام تقريبًا فقد ابنته، فانخلع منه القلب، لكنه تماسك وواصل مهام عمله بكل إصرار متحديًا الموت الذي يرفرف حول جبينه ويخطف أحباءه، لكن يبدو أن الآلام كانت أكبر من الاحتمال، فغادر منصب رئيس مجمع اللغة العربية، تلك اللغة التي أحبها بجنون، واستأذن فجأة في اللحاق بأحبائه.
مع السلامة يا دكتور صلاح.