أحب الشيخ الإمام محمد الغزالى رحمه الله، وأرتاح إلى مدرسته الفكرية الوسطية، التى تجمع بين التمسك بالدين فى غير إفراط أو تفريط، والانسجام مع الفطرة الإنسانية التى لا تتنكر للاحتياجات البشرية وطبيعة العصر، ولذلك أجد نفسى مشدودا بين آن وآخر إلى بساتينه الوارفة، فأملأ صدرى من عبيرها، وأقطف من زهورها ما ينعش روحى، ويبهج قلبى، واليوم أكرمنى الله بثلاث زهرات فواحات من بساتينه، تطيب من طيبهن العقول والقلوب.
الزهرة الأولى من كتاب ” حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة “:
( الدنيا ليست هذه الضرورات التي يكدح الناس وراءها، إنها – إلى جانب ذلك – هذا المتاع النفسي الذي يشرح الصدور، ويثير في البشر مشاعر الإحساس بالجمال. إن المرفهات والمبهجات إضافات لا تستغني عنها الحياة في مسيرها، كما لا تستغني الإبل عن الغناء الرخيم من حاديها اللبق.
إن الاستجمام من العمل خير وسيلة لاستئنافه بقوة أشد وعزم أحد، ولذلك قيل : من لا راحة له لا عمل له، وجاء في الأثر: ” روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت”، والنفوس تلتمس راحتها حينا في أنواع التسلية من لهو ولعب، وحينا آخر فى العودة إلى مشاهد الطبيعة المجردة من ماء وخضرة، ونحن – كما قال أحد الأدباء – بحاجة إلى أن نحدد وقتا للعمل الصحيح، ووقتا للعب الصحيح، فإن من أدوائنا الموجعة الخلط بين العمل والعبث، والمزج بين الحق والباطل.
وتحديد وقت للدعابة والهزل والغناء يعين على تنقية جو الإنتاج والكدح وتغليب طابع الجد والصرامة على جنباته.
إن المسلمين لما حرموا أنفسهم الاستماع إلى الغناء اللاهي، حولوا كتابهم العظيم إلى نص يتلى بتطريب وألحان، وجاء الصوفية فجعلوا الذكر ممزوجا بالنقر على الدفوف والنفخ في المزامير !! وهذا هو خلط الحق بالباطل في أقبح صوره، فإن القرآن لم ينزل لإطراب عشاق السماع كما يحدث الآن، وذكر الله لا يصلح مع المكاء والتصدية، ولكن النفوس لما كانت مطبوعة على حب الغناء، وقد أفتى الجهال بكراهيته، رأت أن تحتال على بلوغ مآربها بهذا الأسلوب الذي أساء إلى الدين فجعله هزلا.
ولو أن الجماهير بدل هذا أشبعت طبيعتها من اللهو المباح، ثم بنت صلتها بالقرآن على مدارسته للعمل به، أو قراءته للتأدب بأدبه ، لكان ذاك أجدى على الدين وعلى الدنيا.)
XXX
والزهرة الثانية من كتاب ” سر تأخر العرب والمسلمين “:
( أفهم أن يدخل الغزاة البيض مجاهل إفريقية، فيسمون أنفسهم معمرين ـ يقصد مستعمرين ـ لقد وجدوا قوما لا يكادون يفقهون قولا، فسرقوا منهم أرضهم، ونفطهم، وذهبهم، وحازوه لأنفسهم، وألقوا جمهرتهم بفتات الموائد، وبعض اللعب التى صنعتها المدنية الحديثة، ولا ننسى أنهم ألهوهم كذلك بصحائف من الكتاب المقدس، على أن يكون ولاؤهم للجنس الغازى، لكن لم أفهم، ولن أفهم أبدا، لماذا يدخل الغزاة البيض إلى أرض الإسلام معمرين؟
لماذا ينجحون فى إخصاب الأرض الجدبة حيث يفشل مسلم، أو بتعبير أصح مدعِ للإسلام؟ ولماذا يتضاعف إنتاج الأرض فى أيديهم ويقل فى أيدينا أو يتجمد؟ لماذا يستخرجون الكنوز من بطن الأرض، ولا نحسن نحن استغلال ما استخفى وما استعلن من ثرواتها؟ إذا كان بعض الناس يقدم للمحاكمة على جرائم ارتكبها، فإن هناك أمما يجب أن تحاكم على تفريطها الشائن فيما لديها، خصوصا الأمة التى قال لها ربها: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ).
والإسلام طلب من أتباعه تجويد علوم الدنيا لأمور ثلاثة : أولها أن تعمير الأرض جزء من رسالة الإنسان على ظهرها، جزء من العبادة التى خلق من أجلها، جزء من الكدح الذى يصون به نفسه وأهله وشرفه، والثانى أن الله لم يخلق الإنسان ليشقى، ويجوع ويعرى، بل خلقه مكرما يحمله من فى البر والبحر، وأحل له الطيبات، ويسر له الزينة والجمال، والثالث أن الجهاد المكتوب على المؤمنين لحماية الدين لا يمكن أن يتم ولا أن ينجح بعيدا عن التفوق المدنى والحضارى، والأمة الإسلامية كى تكون على مستوى دينها، وكى تنجح فى المحافظة عليه، وكى تستطيع إفهامه للآخرين، لابد أن تكون راسخة القدمين فى شئون الحياة كلها، بل يجب أن تكون سباقة فى شتى الميادين، مسموعة الكلمة فى آفاق العلم، برا وبحرا وجوا.
ومن حق الأمم الكبرى- وهى أمم تحتقر الأمية العلمية والصناعية- أن تنظر إلى دعاوى المسلمين وأفكارهم وقيمهم بريبة أو بسخرية، ما دام المسلمون نماذج رديئة للتخلف الإنسانى.)
XXX
والزهرة الثالثة من كتاب ” ركائز الإيمان “:
( لا يعرف طرفا من عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا رجل درس فلاسفة الأخلاق والاجتماع، وساسةَ الشعوب والجيوش، ومؤسسى الحضارات والدول، فإذا فرغ من هذا الدرس المستوعب لعظماء الأرض، وانتهى من استعراضه للمبرزين من قادة البشر، وقف بما لديه من خبرة، أمام أمجاد الإنسان الكامل، محمد صلى الله عليه وسلم، ليرى أن عباقرة الأرض تلاشوا فى سناه، وأن آثارهم تضاءلت أمام هداه، وأن امتيازهم على أقرانهم تحول صفرا أمام شمس النبوة الطالعة، وهالتها الرائعة.
والثناء على محمد صلى الله عليه وسلم ينبجس من ينبوع الثناء على ربه، فهو تقرير حقيقة، وشكر جميل، فليس مدحه من قبيل افتعال الشعراء لفنون في أشخاص من يمدحون، وليس شكره ألفاظا تمر بالشفاهِ مجازاة لنعمة محدودة، كلا!.. فحقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم فوق ما يصف الواصفون، والأيادي التى أسداها، تجعل كل مؤمن مدينا له بنور الإيمان الذي أضاء نفسه وزكاها.)
رحم الله شيخنا الجليل، ونفعنا بفكره وعلمه .