كان محمد عناني – يرحمه الله – من الباحثين العلماء المبدعين الذين شكلوا وجدان مصر، وأحد أرقى قواها الناعمة، ورمزا للعصامية والدأب العلمي والمنهجي، والمترجم الموسوعي المرموق، الذي فتح باب الثقافة المصرية والعربية على روائع الأدب الإنجليزي عامة، وقطبه المبدع شكسبير خاصة.
كان لقاؤنا به – كباحثين مبتدئين – من خلال كتابه صغير الحجم، كبير القيمة “الأدب وفنونه”، و”في الشعر المسرحي”، ثم سفره البديع “دراسات في الأدب الحديث”، الذي فتح آفاقنا، نحن خريجي اللغة العربية، على دراساته القيمة على فنون الأدب الإنجليزي، شعرا ومسرحا وقصة، وكذلك حركة النقد الإنجليزي بأعلامه الكبار.
لم تقف جهود عناني عند مجرد تدريس الأدب والنقد الإنجليزي لطلابه في الجامعة فحسب، بل أخذ على عاتقه ترجمة روائع هذا الأدب للقارئ العربي، فعكف على ترجمة تراث شكسبير المسرحي وقدمه للمكتبة العربية بأسلوب شيق وسلس، كما ترجم عديدا من الأعمال النقدية والفكرية، ولعل من أبرزها ترجمته كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد، الذي أحدث جدلا بين المثقفين إبان صدوره، خاصة أن ترجمته أخذ عليها أنها جاءت مقتضبة بعد حذف أجزاء من النص الأصلي، قياسا بترجمة كمال أبو ديب، وقد دافع عناني عن ترجمته بأنه لم يتم حذف من النص الأصلي وأنها نقلت القضية من دون إخلال بالمضمون.
حرص عناني على التأصيل لفن الترجمة، كما أصل فنون الأدب ونقده، بحيث عدها فنا له قواعده وأصوله فأنشأ كتابين بالغي الأهمية، هما : فن الترجمة، ومعجم المصطلحات الأدبية الحديثة، وعلى الرغم من أن هناك جهودا سبقته في هذا المضمار، كجهود الراحل مجدي وهبة في: معجم مصطلحات الأدب، والمصطلحات الأدبية الحديثة، ونبيل راغب في : موسوعة الإبداع الأدبي، وموسوعة الفكر الأدبي، على سبيل المثال، فإن عمل عناني في ميدان التقعيد للترجمة والمعجم الأدبي جاء إضافة لهذه الجهود وغيرها، من خلال اجتهاداته بالإضافة والتجديد والمعارضة وطرح بدائل لترجمة المصطلحات والتعبيرات المختلفة، والتي رآها أكثر ملاءمة في بابها، كما أنه حرص على مواكبتها لروح العصر.
لم يقف عناني عند هذا الحد، بل تفتقت قريحته الإبداعية، فكتب سيرة ذاتية روائية، متمثلة في: واحات العمر، واحات الغربة، واحات مصرية ، حكايات من الواحات، فهذه السيرة بأجزائها الأربعة تسرد تحولات المجتمع وكاتبها من الماضي والحاضر، ولا تزال تمثل تربة خصبة لدراسات تتناولها بالتحليل الفني، الأدبي والفكري.
لعل أهم ملمح من ملامح حياة عناني، يرحمه الله، أنه كان يعمل في صمت، بعيدا عن الشللية وأجواء الاحتقان والأحقاد، فكان وسيظل نموذجا يحتذى لأولي الألباب من الباحثين والدارسين الجادين، ويكفي أن نشير إلى أنه إلى آخر أيامه كان يعمل دون كلل، فأصدر ترجمات في آخر ثلاثة أعوام، وقد ناهز الثمانين من العمر، لعل أبرزها، حسبما تسعف الذاكرة، كتب: الرفيق في النظرية السردية، ومدرسة فرانكفورت في النقد، وموسوعة الهرمنيوطيقا وغيرهما.
رحم الله الناقد العلم العلامة الدكتور محمد عناني، وجعل علمه وأعماله الصالحة في ميزان حسناته، جزاء ما قدم للثقافة المصرية والعربية من جهود ستظل نبراسا يهتدي به كل قارئ ومثقف وباحث.