40 عاما متواصلة قضاها الأسير الفلسطينى كريم يونس خلف حوائط سجون الاحتلال الإسرائيلى، قبل أن يتم إطلاق سراحه.
دخل السجن وعمره 26 عاما فى 1983، وخرج فى الأسبوع الماضى، وعمره 66 عاما، وطيلة تلك الفترة الطويلة، التى امتدت إلى أربعة عقود، لم تهتز قناعاته بعدالة القضية الفلسطينية مثله فى ذلك مثل آلاف الأسرى الفلسطينيين القابعين داخل سجون الاحتلال.
الأسرى نزلاء سجون الاحتلال بعثوا برسالة مفادها أنه لا تنازل عن حقوق الشعب الفلسطينى مهما تكن التضحيات، وأنهم ـ أى الأسرى ـ على قناعة تامة بأن شعبهم الفلسطينى لم ولن يخذلهم، وأنهم سيظلون أوفياء للشعب الفلسطينى، وقضيته العادلة، وأنهم سيواصلون النضال حتى الاستقلال.
كريم يونس، الأسير الفلسطينى المفرج عنه، وزملاؤه الذين لايزالون خلف قضبان سجون الاحتلال، هم بمثابة طاقة أمل هائلة تؤكد صلابة الشعب الفلسطينى، وصموده، وقدرته على مواجهة التحديات مهما تكن الظروف والصعوبات.
خروج الأسير الفلسطينى ومعه طاقة الأمل فى فجر جديد جاء فى توقيته الصحيح، خاصة بعد تشكيل الحكومة الأكثر تطرفا فى تاريخ الحكومات الإسرائيلية، والتى تريد ابتلاع الحقوق الفلسطينية من خلال التضييق والحصار على الشعب الفلسطينى، ومقايضة الفلسطينيين بالأموال وفرص العمل فى مقابل التخلى عن حلم دولتهم المستقلة.
من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية لم تقرأ التاريخ جيدا، لأنها لو قرأت التاريخ لتأكدت أن الاستعمار لا يدوم مهما يطل زمنه، وما حدث فى جنوب إفريقيا ليس ببعيد.
الاستعمار الإنجليزى لدولة جنوب إفريقيا بدأ فى 1795، واستمر حتى 1994، أى أنه استمر لمدة دامت قرنين من الزمان تقريبا، وبالتحديد 199 عاما، ومع ذلك سقط الاحتلال الإنجليزى، وعاشت دولة جنوب إفريقيا، وعادت لشعبها بعد أن نالت استقلالها على يد الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، الذى مكث هو الآخر نحو 27 عاما داخل سجون المحتل البريطانى الغاصب.
لم تستوعب حكومات إسرائيل المتعاقبة «الدرس التاريخى»، وللأسف جاءت الحكومة الإسرائيلية الأخيرة لتكون هى «الأسوأ» و«الأكثر تطرفا» فى تاريخ الحكومات الإسرائيلية.
خضع بنيامين نيتانياهو لابتزاز التيارات الأصولية المتشددة، وضم كل رموز التشدد والتطرف إلى حكومته، لتخرج الحكومة الإسرائيلية «صادمة» للمجتمع الدولى، بما فيهم أصدقاء إسرائيل مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأوروبية، وغيرهم .
حتى المجتمع الإسرائيلى نفسه منقسم الآن بحدة على الحكومة الإسرائيلية، خاصة فى ظل الخطوات التى تحاول فرضها مثل تغيير القوانين، لتمكين المتطرفين وأصحاب السوابق الجنائية من تولى الحقائب الوزارية، ومحاولة غل يد السلطات القضائية هناك.
لم يهنأ نيتانياهو بحكومته طويلا حتى خرجت المحكمة العليا الإسرائيلية بحكم تاريخى صادم له ولحلفائه يقضى بإقالة أرييه درعى، رئيس حزب «شاس» الدينى المتطرف، من الحكومة بسبب إدانته بالتهرب الضريبى.
أرييه درعى تولى حقيبتى «الداخلية» و«الصحة» فى التشكيلة الحكومية الأخيرة، إلا أن حكم المحكمة العليا يقضى بإقالته، لأنه أدين بالتهرب الضريبى، حيث سبق إدانته بالسجن، ثم توصل إلى اتفاق، ودفع غرامة، قدرها 50 ألف دولار، وتنازل عن مقعده فى الكنيست من أجل تجنب السجن.
قام تحالف اليمين المتطرف الحاكم فى إسرائيل بتعديل قانون يسمح لأى شخص مدان بجريمة، ولم يحكم عليه بالسجن، بالحصول على حقيبة وزارية، وهو الأمر الذى كان محظورا فى السابق، إلا أن المحكمة العليا رفضت ذلك التعديل، وطالبت بإقالة «درعى».
لتقليل تركيز المجتمع الإسرائيلى والدولى على حالة الانقسام الداخلى الإسرائيلى المتصاعد، تقوم الحكومة الإسرائيلية بالمزيد من التصرفات الاستفزازية ضد الفلسطينيين.
كانت بداية التصرفات الحمقاء اقتحام وزير الأمن الإسرائيلى، بن غفير، المسجد الأقصى فى تصرف استفزازى كان يمكن أن يدفع بالمنطقة كلها إلى الهاوية.
«بن غفير» أكثر تطرفا من «درعى»، ولديه سجل إرهابى حافل، لدرجة أن نقابة المحامين الإسرائيليين رفضت قبول عضويته عدة مرات، لسجله الإرهابى المتطرف، ثم عادت وقبلت عضويته مع تنامى تيارات التطرف والإرهاب والأصولية داخل المجتمع الإسرائيلى.
لم تسلم السلطة الفسطينية من شرور الحكومة الإسرائيلية الجديدة، حيث قامت تلك الحكومة بسلسلة من الخطوات والإجراءات التى تهدف إلى محاصرة السلطة الفلسطينية، وزعزعة ثقة المواطنين الفلسطينيين فيها، والتضييق عليها، وعزلها داخل أبنية الحكومة الفلسطينية فى الضفة الغربية.
نزعت الحكومة الإسرائيلية تصاريح تحركات الوزراء الفلسطينيين وكبار الشخصيات، لدرجة أنه تم منع وزير الخارجية الفلسطينى، رياض المالكى، من التحرك، وتم إلغاء تصريح تحركاته، ليظل أسيرا داخل مكتبه ومنزله، وغير قادر على التجول والترحال، لشرح وجهة النظر الفلسطينية فى المحافل الدولية.
وسط هذه الأجواء «الملتبسة» و«المعقدة» جاءت قمة القاهرة، الثلاثاء الماضى، التى ترأسها الرئيس عبدالفتاح السيسى، بحضور الملك عبدالله الثانى، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، والرئيس الفلسطينى، محمود عباس.
القمة كانت ضرورة فى هذا التوقيت، لأنها قمة تأكيد الثوابت على المواقف فى ظل تشكيل الحكومة الأكثر تطرفا فى التاريخ الإسرائيلى، وكذلك فى ظل حالة التوتر والاستقطاب التى يعيشها المجتمع الدولى بعد اندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وتفاقمها خلال المرحلة الماضية.
القمة أكدت ضرورة إيقاف جميع الإجراءات الإسرائيلية الأحادية غير الشرعية التى تقوض حل الدولتين، وتقلل فرص السلام، وطالبت بضرورة الحفاظ على الحقوق الفلسطينية المشروعة، وحق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم على خطوط الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وفق القانون الدولى، وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ومبادرة السلام العربية.
دعت القمة إلى توفير الحماية للشعب الفلسطينى، وحقوقه المشروعة، وطالبت بتكاتف الجهود، لإيجاد أفق سياسى حقيقى من أجل إعادة إطلاق مفاوضات جادة وفعالة، محذرة من خطورة استمرار غياب الأفق السياسى، وتداعيات ذلك على الأمن والاستقرار فى المنطقة.
القراءة الدقيقة والمعمقة للبيان الختامى الصادر عن القمة الثلاثية تؤكد بوضوح أهمية تلك القمة، وضرورتها فى ذلك التوقيت، وأنها استهدفت إرسال العديد من الرسائل إلى كل الأطراف، سواء كانت الحكومة الإسرائيلية أو المجتمع الدولى، وكذلك الداخل الفلسطينى.
فيما يخص الحكومة الإسرائيلية، فقد استهدفت القمة تأكيد الثوابت المشتركة فى ملف القضية الفلسطينية، والالتزام الكامل بحل الدولتين، وقيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض كل التصرفات الأحادية غير المشروعة وغير المقبولة.
وبالنسبة للمجتمع الدولى، فقد دقت القمة جرس الانتباه لما يحدث فى الأراضى الفلسطينية، والتحذير من خطورة استمرار الموقف بهذا الجمود، بما يهدد السلم والأمن والاستقرار فى المنطقة بأكملها، فى ظل شواغل المجتمع الدولى بالحرب الروسية ـ الأوكرانية، وضرورة إعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية، بوصفها لا تقل خطورة عن الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
الرسالة الأهم – من وجهة نظرى – كانت للداخل الفلسطينى بأنه ليس وحده فى نضاله، لتحقيق حلمه فى دولته المستقلة، وتأكيد الدعم والمساندة للحق الفلسطينى المشروع والعادل طبقا لقرارات الشرعية الدولية.
يبقى الدور الأهم على الشعب الفلسطينى، وضرورة التحرك بإيجابية من أجل تحقيق الوحدة الداخلية، ولم الشمل الفلسطينى، والعمل بقوة من أجل تحقيق هذا الهدف خلال المرحلة المقبلة، ليكون الصوت الفلسطينى موحدا وقويا فى الداخل والخارج.