مرت الجريمة هذه المرة فى هدوء، لم ينل المجرم أكثر من بعض عبارات استنكارية ماسخة، لم تذكره حتى بالاسم، وفى الغالب كانت مجرد كلمات عابرة اعتادوا عليها لتسكين مشاعر المسلمين، الذين ربما يؤلمهم أن تتكرر إهانة مقدساتهم وحرق قرآنهم دون رد فعل قوى ورادع، يليق بأكثر من مليار ونصف المليار مسلم حول العالم.
حدثت الجريمة فى استوكهولم عاصمة السويد يوم السبت الماضى، حينما قام السياسى الدانماركى السويدى المتطرف راسموس بالودان بإحراق نسخة من القرآن الكريم أثناء مظاهرة خرجت بتصريح رسمى من الحكومة السويدية، وهى نفس الجريمة التى ارتكبها هذا المجرم فى أبريل الماضى، حين قام مع أنصار حزبه بإحراق نسخ من القرآن الكريم، ومر الأمر دون عقاب، مما شجعه على تكراره، فمن أمن العقوبة أساء الأدب.
وكانت مظاهرة استوكهولم الأخيرة موجهة أساسا ضد تركيا، اعتراضا على سياساتها، ولا حرج فى ذلك، لكن راسموس بالدوين وأنصاره استغلوا الفرصة وحصلوا على تصريح رسمى لإحراق المصحف الشريف، وهم يعلمون جيدا أن تركيا ليست الإسلام، وأن هناك فرقا كبيرا بين أن تقوم بمظاهرة سياسية ضد سياسات بلد ما، وبين إهانة أقدس مقدسات أمة بأكملها، وأن الخلافات السياسية يجب ألا تتداخل مع ازدراء الأديان، وأن حرية الدين لا تعنى حرية إهانة من الدين.
ومن الطريف أن الحكومة التى صرحت للمجرم بحرق نسخة القرآن الكريم هى نفسها التى استنكر رئيسها أولف كريسترسون هذا الفعل المشين، وكتب قائلا ” حرية التعبير جزء أساسي من الديمقراطية، ولكن ماهو قانونى ليس بالضرورة أن يكون ملائما، وحرق الكتب التى تمثل قدسية للكثيرين عمل مشين للغاية، وأريد أن أعرب عن تعاطفى مع جميع المسلمين الذين شعروا بالإساءة لما حدث “، وكتب وزير خارجيته ” إن الاستفزازات المعادية للإسلام مروعة، والسويد لديها حرية تعبير بعيدة المدى، لكن هذا لا يعنى أن الحكومة، أو أنا شخصيا، ندعم الآراء التى يتم التعبير عنها.”
هل هذا الكلام له قيمة أمام الجريمة المروعة، أم أنه مجرد أفيون لتخدير المسلمين وامتصاص غضبهم، إلى حين أن تأتى موجة أخرى من الإساءة، أو تقع جريمة أخرى ضد مقدساتهم.
ليس سرا أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يهان وتهان مقدساته فى العالم أجمع، وعندما تخرج اعتراضات خجولة من بعض المسلمين يقال لهم إن هذه حرية التعبير، ويظهر من بين المسلمين أنفسهم من يطالبهم بأن يكونوا متحضرين، ويقبلوا الإهانة بروح رياضية، وشيئا فشيئا تتبلد المشاعر، وتصبح الإهانات أمرا معتادا.
والتعمد الواضح لدى المتطرفين اليمينيين لإحراق القرآن الكريم لايعنى غيرشيء واحد، هو اعترافهم بأن هذا الكتاب مهم ومؤثر، وأنه يغزو العالم، ويغزو الغرب خاصة بما يحمل من طاقة إلهية ذاتية، تجبر من يقرأه أو يستمع إليه على احترامه وتوقيره، والتفاعل معه، حتى قيل إن الإسلام اليوم هو الأسرع انتشارا فى أوروبا خاصة، والغرب عموما، رغم كل الطعنات التى توجه إليه.
ويعد راسموس بالودان واحدا من الذين اعتادوا القيام بأعمال حرق نسخ من القرآن الكريم في مختلف مدن السويد والدانمارك منذ عام 2017، وهو بذلك يمضي على خطى زعماء اليمين المتطرف فى أوروبا، الذين يعتبرون أن العداء للإسلام وللمهاجرين المسلمين ورقة رابحة لكسب الشعبية في أية انتخابات يخوضونها.
والمتابع لأنشطة اليمين المتطرف في أوروبا يمكنه أن يدرك بسهولة أن حجة حرية التعبير التى ترفعها الحكومات مجرد شماعة ممجوجة ومرفوضة، بالنظر إلى الإهانات المتعمدة الموجههة إلى الإسلام ومقدساته ورموزه فى أكثر من دولة.
حدث ذلك عندما أعادت مجلة ” شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة نشر رسوماتها الكاريكاتورية المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم فى سبتمبر 2020، مما أدى إلى احتجاجات عنيفة من قبل متظاهرين مسلمين في أنحاء العالم، وبالطبع ألقي اللوم على المعترضين ولم يعاقب المجرمون، وبعد ذلك أصدرت المحكمة الأوروبية العليا حكما قالت فيه إن الإساءة إلى نبي الإسلام لا تدخل ضمن حرية التعبير، لكن الحكم ظل حبرا على ورق، ولم يعمل به إلى الأن.
وفى أبريل2021 نشر السياسي اليميني الهولندي المتطرف “خيرت فيلدرز” مقطع فيديو عبر تويتر كان عنوانه ” لا .. للإسلام “، وهو الفيديو الذي أغضب الجالية المسلمة في أوروبا، كما أغضب ملايين المسلمين في أنحاء العالم، وكان من نتيجة ذلك أن طالبت المؤسسات الإسلامية بقانون دولي يجرم معاداة الإسلام والتمييز ضد المسلمين، واعتبار الإساءة لأي رمز ديني سلوكا مرفوضا لاينم عن حرية ولا حضارة، خصوصا أن العالم الإسلامى لم يشهد مثل هذه الجرائم ضد كتب ومعتقدات أصحاب الديانات الأخرى، ويتخلص تلقائيا من أية روح معادية للآخر الدينى.
والحقيقة أن الجرائم المعادية للإسلام والمسلمين التى تواترت مؤخرا نسفت مصداقية الشعارات التى رفعها الغرب بخصوص حرية العقائد والأديان، ونبذ الكراهية، واحترام الآخر، والتعايش السلمى بين الجميع، وضرورة الحوار من أجل أن تعيش الإنسانية فى سلام وأمان، فها نحن نرى الإسلام يهان ولا نسمع صوتا لهؤلاء الذين دعوا للحوار ووقعوا الوثائق، ويتم التضييق على الحجاب والمؤسسات التربوية الإسلامية بشكل منظم لاجتثاث الهوية الإسلامية أن تمييعها، والقضاء تدريجيا على الخصوصية الثقافية الإسلامية.
والمعروف تاريخيا أن دول الغرب كانت تهدد بالتدخل فى أماكن عديدة من العالم لحماية الأقليات الدينية، وضمان حريتها فى ممارسة شعائرها بدون إكراه أو تمييز، لكن حين يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين لايكال لهم بنفس الكيل، وهو مايعنى صراحة أن الغرب لايزال ينظر إلى المسلمين نظرة متعالية، فيها نوع من الازدراء وعدم الاكتراث، وهى نظرة من مخلفات الهيمنة الأوروبية والإسلاموفوبيا، وبقايا ميراث حقبة الاستعمار.