جاءت كلمة الرأفة مرتبطة بالقلب صريحة في آية واحدة من آيات القرآن الكريم حين تحدث عن أتباع سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام حيث قال سبحانه وتعالى:” ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” .
وقد جاءت كلمة رأفة بمشتقاتها ثلاثة عشرة مرة. منها ثلاث مرات جاءت منفردة وعشر مرات جاءت مقترنة بالرحمة .أما المنفردات فكانت الأولى في حديث القرآن الكريم عن جلد الزاني والزانية حيث يقول سبحانه وتعالى:” ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ” وجاءت نكرة وبصيغة اسم المرة لتفيد التقليل أي أدنى رأفة ،وهنا يتضح أن الرأفة هي الشعور القلبي الذي يتأثر بحال من وقع له ما يضره جسديًا أو معنويًا ،والرأفة هنا هي الشفقة التي تدفع الإنسان إلى تخفيف الألم عما يقع عليه هذا الألم ،والقرآن الكريم يحذرنا في الآية السابقة من ذلك حتى يدرك من يفكر في ارتكاب هذه الجريمة أنه لا أمل في العفو عنه إذا اكتشف أمره ،فيتجنب الوقوع فيها أو الاقتراب منها، فتتضاءل نسبة هذه الرذيلة في المجتمع .
والثانية جاءت في مقارنة القرآن الكريم بين فريقين من الناس فريق كاره للحق كاره للناس والصلاح منافق يملك لسانًا يستطيع أن يزين الباطل ويقبح الحق ويضلل الناس فإذا تكلم استمال السامعين وخدعهم، فظنوا به خيرًا. فإذا تمكّن وصار في مأمن سعى بكل طاقتة في إفساد الأرض، وتدمير ما ينفع ، وقتل من استطاع قتله، والفريق الثاني يقدم روحه رخيصة في سبيل مرضاته الله يقول تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ” و كلمة “يشري” من الكلمات التي تعطي المعنى وضده وفي الآية تعني البيع أي يبيع روحه لله وهو ما يوضحة قوله تعالى : “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة “
والرءوف هو العطوف الحنون الذي من صفاته الثابته العطف والحنان لأنه على صيغة( الصفة المشبهة ) مثل : كريم وعظيم وجميل ورحيم ،
كأن الله سبحانه وهو يختتم هذه المقارنة يعلن أن رأفته أكبر من إثم الآثمين وخطايا المخطئين إذا عادوا .وكرمه وعطفه وإنعاماته أكبر مما قدمه الصادقون الذين اشتروا الآخرة بأرواحهم
الثالثة :في قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًاوما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد”
وكأن الله سبحانه في هذه الآية أيضا يفتح بابًا واسعًا لمن أسرفوا على أنفسهم في الخطايا فينبه إلى رأفته بالعباد دون تحديد من هم هؤلاء العباد بل المتأمل يدرك أن كلمة العباد يريد بهم العصاة إذا ما عادوا إليه وجدوه رءوفًا بهم .وهذا المعني يدركه المتأمل خاصة وأن الحالة الثانية والثالثة جاءتا لتستعرضا حالتين متناقضتين وفريقين مختلفين فريق الإيمان والإقبال على الله وفريق العصاة المدربين عن بابه ورحابه.
والرءوف اسم من أسماء الله الحسنى حيث يرأف بعباده كما جاء في معجم المعاني أي يتعطف على المذنبين فيقبل توبتهم ويستر عيوبهم ويبالغ في رحمته بهم، ويخفف عن عباده بعدم تحميلهم من العبادات ما يشق عليهم. وهو ما نجده في دعاء الأنصار رضوان الله عليهم وكذلك دعاء المؤمن الذي سما بإيمانه فانتفت من قلبه كل الأمراض التي تحجب حب الخير للآخرين : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” فهم يستعطفون ربهم ليستجيب دعاءهم باسمين من أسمائه ” إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”. كذلك في حديث القرآن عن تحويل القبلة وما ردده المشركون من تشكيك حتى في صلاة المسلمين السابقة إلى المسجد الأقصى فقال تعالى: “وماكانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيم)
والمتأمل في تكرار مجىء الرحمة مع الرأفة يدرك أن هناك فرقًا بين الرحمة والرأفة وإلا اكتفى القرآن الكريم بواحدة منهما، فإذا عرفنا أنه ليس هناك ترادف في كلمات اللغة العربية إلى درجة التطابق تمامًا أيْقنّا أن لكل كلمة منهما معنى يختلف عن الأخرى وهو ما ينبهنا إليه أمام المفسرين الشيخ محمد متولى الشعراوي رضوان الله عليه : حيث يقول :الرأفة إزالة الألم والرحمة زيادة الإنعام أي أن الرءوف هو من يسعى للتخفيف عن الناس وإزالة آلامهم وهو سر قوله:وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ” أي: لا تخففوا عنهما. أما الرحيم فهو من يعمل على نفع الناس وزيادة ما يتمتعون به من نعمة .
ومما أنعم به ربنا سبحانه وتعالى على نبية سيدنا محمد أن منحه هذين الصفتين بصيغتهما التي تفيد ثباتهما فيه صلى الله عليه وسلم ؛ وبنفس ما سمى بهما ذاته فيقول سبحانه عن ذاته جل جلاله وتباركت أسماؤه :” إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ “ويقول عن نبيه : “لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }وهما اسمان من اسماء الله لم يصف بهما الله نبيًا غير رسوله سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه.