كان صندوق سِتىّ زينب عتيقا مُهملا وقابعا أَمامى فى رُكن القاعة السُّفلية من منزلها الكائنِ فى حارة درب الغايش بقرية مرصفا حيث عشت معظم طفولتى
وكم راقبته وأنا طفلٌ صغير وفهمت من أُمى أنهُ يخُص سِتى زينب حيث تضعُ فيه ملابسَها ومتعلقاتِها الخاصة وقد جاءت بهِ وهى عروسٌ كقطعةِ أثاث مُهمة فى عفشها
كان الصندوق له شكله ُالمُتميز وله وسامتَه التى تختلف باختلاف مواصفاته وباختلاف سعره وقيمةِ العَروس التى تشتريه
ظل هذا الصندوقُ العجيب ُيؤدى دوره ُالمنوط به فى حياة سِتى زينب دون كَللٍ أوْ مللٍ لعدة عقود , إلى أن تطورت الحياة ودخل إلى الخدمة دُولاب حُجرة النوم بشكلهِ الحديث المُتعارفِ عليه ليتم إحالة هذا الصندوق العتيق إلى التقاعد
ومع دخولى إلى الصف الاول الإعدادى وبداية التطور الذهنى والحَضَارى المُصاحب لهذه المرحلة
وجدت الفُرصة مواتيةً للانقضاضِ عُنوة على هذا الصندوق العتيق وانتزاعهِ بمساعدة أُمى كى أَستفيدَ به فى حِفظ كتُبى ومُتعلقاتى المدرسية
فعرضتُّ عليها الأمرَ فوافقت على الفور وقالت :
- عينيا لِك يارفعت … وسِتكْ مش هتقولّك حاجة
ونظفتهُ وحمَلته معى إلى حجرةِ ” المَقْعدِ ” وهى الحجرة العُلوية الصيفية التى أُذاكِرُ بها دروسى
ليصبحَ هذا الصندوق منذ تلك اللحظة ملكيةً خاصة بى أتحكمُ فيه كيف أشاء , أفتحُ وأقفلُ بوّابتهُ العُلويةَ بمعرفتى وأُخفى مفتاح قِفله الصغير فى جيبى
أستذكر عليه دروسى مُودِّعا تلك الطبلية الصغيرة التى كانت تفرضُ علىَّ الجلوس أرضًا
ألقيتُ الطَّبليةَ جَانبا ووضعنا الصندوقَ مكانَها وأتيتُ بكُرسى من كراسى أُمى المعدنية ووضعتهُ أمامَه ليكونَ بذلك أولَ مكتبٍ لى فى التاريخ أُذاكرُ دُروسى عليه كل ليلة بمُصاحبة لمبة ِالجازِ نِمرة عشرة حيث تطلق نورها الاصفر الباهت ورائحتِها البترولية المُعتادة , كنتُ فى غاية السعادة لهذا الحَدث الكبير فأنا الوحيد الآن بين أقرانى الذى أصبحَ لديه مكتبا خاصا يضعُ فيه أدواته ومُتعلقاتِهِ من الداخل ويستخدمهُ من الخارج كسطحِ مكتبٍ للمذاكرة ’ كما كان من الممكن أيضاً أن أخفى به بعضَ الأشياء الخاصة التى لاأُريد أن يراها اَحُدٌ
كانت سعادتى غامرة بهذا المَكتب الاولِ فى حياتى رغم مُشكلاتهِ المُتعددةِ التى بدأت تظهر تباعا مثل مُشكلة بوابتهِ العُلوية الوحيدة التى كانت تفتحُ لأعلى مما يُخلُّ بترتيب سَطح المكتب عند فتحها ويربك عملية المذاكرة فأشارت علىَّ أمى بأنْ أُخرجَ من باطنِ الصندوقِ كلّّ ما أحتاجُ إليه دفعةً واحدةً وأضعُه أمامى على السَّطح ومن هنا لاافتحُه إلا مرةً واحدةً فقط كل يوم
والمُشكلة الأخرى كانت فى شَكل غطاء الصندوق المُستدير والذى يقتربُ من الشكلِ القَبْوى مما يمنعُ تثبيتَ الاشياءِ واستقرارها عليه خُصوصا لَمبةِ الجازِ نِمرة عشرة , وتغلبت أُمى على تلك المشكلة أيضا بتعليق اللمبة فى مسمارٍ صغير على الحائط القريبِ منى لأكونَ فى مأْمنٍ منها وهذا هو الأهم من وجهة نظرها
كذلك كان لونُ الصندوق قاتما أقربُ إلى البُنّى الداكنِ الذى يشى بقِدَمِهِ ويكشف عن عدم وسَامتهِ ؛ فقامت أُمى بتغطيته بمفرشٍ من القُماش الجميل ليوارى سوءة َقتامتِهِ الفَجّة - إيه رأْيكْ يارفعت كدا – شَكْلُهْ جَميل – صَحْ ؟؟؟
- مااااااشى يا امَّه – تمام – رَبنا يِخَليكى
وليس هذا فقط وإنما كانت هناك مشكلة المشاكل التى لاحل لها فعند الجلوس إلى الصندوق كانت قَدماى لاتشعرُ بالراحة ِلكَونِها ترتطمُ بجِسم الصندوق الخَشبىّ الصَّلب مما كان يؤلمنى ويُباعد بينى وبين سَطح المكتب وهذه المشكلة تحديدا لم استطعْ حلّها لا أنا ولا أُمى إلا أنها اقترحت علىَّ حلاً وسطِياً وباشرتْ تنفيذهُ معى بأن أجلسَ إلى المكتبِ بوضعٍ جانبىٍ فتتحررَ قدَماى وأتفادى هذا الارتطام المزعج بجسم الصندوق - يااااااااااه – جميل أوى كدا ياامّه
- اى خِدمة ياأستاذ رفعت – المُهم تِذاكر عَشان تنجحْ وتجيب نمر عالية وتخش الثانوى العام .
ورغم كلّ هذه العيوب والمُعوقات إلا أننى لم أكن أعبا بها ؛ كل مايَهمنى هو الملكية الخاصة للصندوق وحريةٍ استخدامه .
كُنتُ أزهو كثيرا أمام زوارنا لكونى أمتلكُ مكتبًا خاصاً أتحكمَ فيه فأستطيع أن أغلقهُ بنفسى وأضع َمُفتاح قِفلهِ الخَاص فى جيبى …
استمرتْ صُحبتى لهذا الصُّندوق الصدوق طوال السنوات الثلاث للمرحلة الإعدادية حتى أُنهيتُها بنجاح وتفوّقٍ مكننى من الالتحاق بمدرسةِ بنها الثانوية كما أرادت أُمى
لأعودَ ذات يوم من المدرسة فلا أجد الصندوق فى مكانهِ بل وجدتُّ مكانهُ مَكتبا خشبيا جديدا وقد نقلتْ أُمى كل مُتعلقاتى من الصندوق إليه …
وهنا تسَمَّرَتْ قدمَاى واحتشدتْ دموعى …. - فِين الصندوق ياامّه ؟!!
- فِين الصندوق ياامه؟ !!!!
- اديتهْ لعمّك عطية النجار اللّى عملْ لَكْ المَكتب الجديد …
- صندوق إيه يارفعت اللى بتسْاَلْ عَليهْ بس …
- إنتَ فى الثانوى العام دِلْوَقتى ياحبيبى
- الفْ مبروك عليك المَكتب الجِديد
ودون أنْ أشعرَ وجدتُّنى أجرى كريشةٍ فى مَهبِّ الريح قاصدا ورشةِ عم عطية النجار باحثا عن الصندوق … لاجدَه قد قطّعَه وقطعنى معه إلى ألواحٍ وأشلاء متناثرة تبكى هى الاخرى هُنا وهنُاك