الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله –تعالى–: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).
قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فيه فوائد:
الثانية: إن طريقة التفكير فيما يشاهده الإنسان مِن الكون حوله هبة من الله -عز وجل- ومِنَّة وتوفيق؛ إذ أراه أدلة ملكه في السماوات والأرض، في خلقها ثم في تدبيرها لحظة بلحظة، بما يظهر للقلب معاينة آثار الملك، فهذه الكائنات تعجز عن خلق نفسها؛ إذ هي مدبَّرة في حركاتها وسكناتها، فالشمس التي نراها تشرق وتغرب هي كائن جماد لا يملك لنفسه شيئًا، وكذلك القمر، وهذه الأرض بما فيها من جبال منصوبة، وأرض مبسوطة، وأنهار جارية، وأمطار نازلة؛ كل قطرة منها بقدر نزلت في وقت محدد هي لم تحدده، واستقرت في باطن الأرض في مكان لم تحدده الأرض، ولا القطرة، ولا السحابة، أو جرت في مجرى النهر؛ هي لم تصنع أخدوده، ولا حددت قوانين قوى سير الماء واندفاعه!
بل هذه الأجرام السماوية في دقتها وإتقانها مع كبر حجمها الهائل بالنسبة لنا، (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر: 57)؛ لها قوانينها في حركتها، وقَدْر يومها وليلها ونهارها وسنتها، وتكوين أجزائها وتربتها وغلافها الجوي، والتفاعلات الهائلة التي تفوق إدراكنا في باطنها؛ كتلك الانفجارات داخل الشمس، ففي كل ثانية يتولد منها طاقة هائلة تصل إلى جميع أجزاء المجموعة الشمسية بنسب متفاوتة، ولكنها مقدَّرة من حرارة وإشعاع، ونور، ومغناطيسية، وطاقات نووية، وغيرها، مما لا نحيط به علمًا؛ مما يجزم معه كلُّ عاقل بأن خالقها ومدبرها له كمال العلم، وكمال القدرة، وكمال الحكمة، وكمال الخبرة، وكمال العدل.
وكذلك فيما يجري على الأرض من موت وحياة لا يملكها أعلى المخلوقات شأنًا، في العقل والقدرة، والعلم والإدراك، وهو: الإنسان؛ إذ هو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، وقطعًا هو لا يملك كذلك ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا لما حوله مِن الكائنات الحية، وهي الموت والحياة يحدث فيها في كلِّ لحظة وفي كل دقيقة، وإن كان البعضُ قد يتصوَّر أنه يحيي ويميت، ولكنه مجرد سبب محدود للغاية، وأما مليارات عمليات الإحياء والإماتة فيستحيل أن ينسبها إنسان إلى نفسه، أو إلى غيره مِن الخلق، وهي موجودة أمامه يشهدها بكلِّ وضوح تقع في كلِّ أجزاء الأرض.
وكذلك لوازم الحياة مِن: الهواء، والغذاء، والماء، واستعمال كل هذه الطاقات المبذولة بكلِّ إتقان في الانتفاع بها داخل أجساد هذه الكائنات من خلال ملايين المواد، وملايين التفاعلات في كلِّ لحظة وثانية في كل خلية من الخلايا، ثم كل في عضو من الأعضاء، ثم كل في كل جهاز من الأجهزة، ثم في انتظام الجسم كله بما لا يحيط به مخلوق ساعة حصوله في داخله؛ فضلًا عن غيره، وهو لا يملك من ذلك ذرة واحدة، ولا خلية واحدة، ولا يملك موتها ولا حياتها، ولا يملك حركة واحدة لا يطرف إلا بأمر خالقه ومدبره، ولا يمسك بيده، ولا يتحرك برجله، ولا يفكر بعقله إلا بإذن الغني الحميد، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر: 15-17).
وكذلك الانتفاع بالغذاء والمواد الغذائية داخل الخلايا لتحترق؛ لتخرج الطاقة التي تحرِّك هذا المخلوق وتجعله يفكِّر ويتذكَّر، ويحفظ ويتعلم، ويحلل ويستنتج؛ بأدوات لم يصنعها هو، ولا يملك منها شيئًا، مثل: عقله، وقلبه، ويده ورجله، ومخه وعظمه، وشرايينه وأوردته، وأعصابه وعضلاته، وهو يرى ذلك أمامه كما يراه كل الناس؛ لكن مَن الذي انتفع بالنظرة؟!
ومَن الذي نظر كالأبله أو الأعمى؛ لا يرى؟! (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد: 16)، فالله الذي أرى مَن شاء ملكه في السماوات والأرض، وطَبَع على قلب مَن شاء فأضله بعدله وعلمه وحكمته؛ بإعراضه عن التفكير السديد، بعد أن أعطاه الله أدواته، فسبحانه وبحمده -ونسأل الله أن يهدينا فيمَن هدى مِن عباده الصالحين-.
وقد ذكر الله -عز وجل- امتنانه على إبراهيم بأنه أراه ملكوت السماوات والأرض، وأنه بهذه الرؤيا صار مِن الموقنين: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، وهذا اليقين إنما هو نابع مِن شهودٍ تامٍّ لربوبية الله -سبحانه وتعالى-، وأفعاله في الكون؛ التي يستحيل أن ينكرها أحدٌ، ويستحيل أن يدعيها أحدٌ، ويستحيل أن ينسبها أحدٌ إلى مجرد الصُّدَف العمياء، نعوذ بالله من الضلال!
وهذا الأمر الذي لا يقبله عاقلٌ إذا وَجَد مجرد حفرية يسيرة في أدوات حَجَريَّة منذ ملايين السنين، بل يجعلها دليلًا قطعيًّا على وجود صانعٍ لها، هو الإنسان العاقل، وأن ذلك دليل على وجود الإنسان في ذلك العمر؛ لأن القرود -فضلًا عن الطيور، فضلًا عن الضفادع والأسماك- يستحيل بكلِّ حال من الأحوال أن تصنع هذه الأدوات الحجرية، وإذا وَجَد التماثيل عَلِم أنها من صنع اليونان أو الرومان أو الفراعنة، أو غيرهم؛ فدلَّ ذلك يقينًا عنده لا يحتمل التردد على وجود صانع لها؛ فكيف بهذا الكون العظيم الذي فيه هذه المعجزات الباهرة والأحداث التي تقع في كلِّ ثانية بكمال الإتقان والإحسان؟! فلا بد لها مِن صانع -سبحانه وتعالى-.
ولذلك كانت هذه الطريقة هي التي يستعملها الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ لأنها أقصر طريقة إلى اليقين، بعيدًا عن الجدل الكلامي، والمناقشات الفلسفية التي لا تُثمِن ولا تغني من جوع؛ قال الله -عز وجل- عن فرعون: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء: 23-28).
وقال -سبحانه وتعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53)، وقال -سبحانه-: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) (إبراهيم: 10)، وقال -سبحانه وتعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 1-3).
هذه هي طريقة الكتاب والسنة، وطريقة عقلاء هذه الأمة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أنها الطريقة الحقيقية التي يوصل بها إلى اليقين.
نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بكمال اليقين، وأن يزيدنا علمًا.