ويتجدد اللقاء كل عام في هذه الأيام المباركة من الشهر الحرام (رجب ) للحديث عن ذكرى آية من أعظم آيات النبوة ، كما يتجدد اللقاء حيث يحتفل المسلمون في أرجاء المعمورة من أهل السنة والجماعة بهذه الذكرى العطرة الغالية على قلوبنا جميعاً ، تلك الذكرى التي اختص الله سبحانه بها عبده وحبيبه المصطفى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم من دون سائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وأمره أن يصليَ بهم في بيت المقدس، موطن النبوات الأولى، وأمرالأنبياء والمرسلين أن يقتدوا به، تشريفاً لقدره ، وتعظيماً لمنزلته ، وإقراراً بمكانته عند الله تعالى ؛ وقد أورد الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأَول من ينشق عنه القبر، وأَول شافع وأَول مشفع.
وأورد الإمام الترمذي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي .
وروى الإمام البيهقي، والحاكم أبو عبدالله النيسابوري في مستدركه أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق.
فقالوا: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس ، وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة.
فلذلك سمي سيدنا أبو بكر أول المسلمين من الرجال ، بأبي بكر الصديق.
لقد زعم بعض المستشرقين ، ووافقهم في زعمهم الباطل هذا بعض المحسوبين على الإسلام ، أن الإسراء كان بالروح، أو كان مناماً، ولم ينتبهوا إلى أنه لوكان ما زعموا صحيحاً، لما جعله الله سبحانه من آيات النبوة لنبيه، ولما كان معجزة من معجزات النبوة ، ولما أثنى جلَّ شأنه على نفسه بهذه المعجزة ، إذ قال في سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
ومن الغرائب أنهم احتجوا بما نقل من غير إسناد عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها ، ثم أخطأوا في نقلهم خطأ ينقض حجتهم، فإن رواية ابن إسحاق عنها: ما فُقِدَ جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالبناء للمجهول، فنقلوها: ما فقدتُ جسدَ رسول الله، فجعلوا حجتهم تحمل معول هدمها؛ لأن الثابت الصحيح أن الإسراء كان قبل الهجرة ، والمعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها في شوال من السنة الثانية للهجرة ، مما يعني أنها لم تكن في وقت الإسراء والمعراج في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليس من المنطق السليم أن يُحكى عن لسانها أنها تقول: ما فقدتُ جسدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصحيح أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها لم تكن زوجة للنبي صلى الله عليه في وقت الإسراء والمعراج ، ولكنها كانت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يجيبها ، فقد أورد الإمام البخاري. في صحيحه أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال :لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت ، فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ، ثم قال يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)
والأخشبان جبلان في مكة هما جبل أبي قبيس ، وجبل قعيقعان، وهما مطلان على المسجد الحرام من جهة المشرق.
يقول الشيخ الإمام عبدالله سراج الدين في كتابه (محاضرات حول الإسراء والمعراج) تنزَّه الله تعالى عن أن يكون إسراؤه بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه قرب مكان، إذ المولى سبحانه ليس حالَّاً في مكان ، أو في السماوات حتى يقرِّب إليه رسوله قرب مكان .
ويردف الشيخ الإمام : وخصّ الحق سبحانه رسوله بصفة أنه عبد مطلق لله ، تحرَّر من رقّ الأغيار والأسباب ، وتحقَّق بالعبودية الخالصة لله تعالى ، فلم يلحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسرائه ومعراجه إلا ربه سبحانه وتعالى.
وكان البدء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، لأن المسجد الحرام ، هو مقر شريعة إبراهيم عليه السلام ، ، بينما المسجد الأقصى هو مقر شرائع بني إسرائيل ووحيهم .
ولقد كان الإسراء كان من مكة المكرمة بأرض الحجاز إلى القدس الشريف بفلسطين ببلاد الشام، وفي هذا ربط وثيق، وجمع وطيد بين مهبطي الوحي، ومهدي النبوات والرسالات والشرائع السماوية، فهي أرض طاهرة مقدسة، أرض إسلامية مباركة، وأن الإسراء بدايته المسجد الحرام ونهايته المسجد الأقصى.
وكان المِعراج من المسجد الأقصى ليكون بعد الاحتفال الأرضي العام بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فهو احتفال خاصّ في السماء لم يحْظَ به نبي من الأنبياء، وكانت صفوة منهم في طريق عروجه يَستقبلونه ويكرِّمونه في السماء كما كرّموه في الأرض، وكان كلٌّ منهم يمثل مرحلة من حياته ـ صلّى الله عليه وسلم ـ أحسّ فيها بنصر الله لهم على الرغم مما حدَث لهم من أقوامهم.
إن المسجد الأقصى المبارك مرتبط بالمسجد الحرام ارتباط إيمان وعقيدة وعبادة ، وعليه فإن المسجد الأقصى المبارك مرتبط بالبيت المعمور، إضافة إلى أن الأقصى هو بوابة الأرض إلى السماء، وفي سماء القدس شرعت الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام وهي عمود الدين .
وعن العلاقة بين مكة منطلق الإسراء ، وبين بيت المقدس منتهى الإسراء ، فيه دلالة على مدى ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين في كل عصر ووقت، من المحافظة على هذه الأرض المقدسة وحمايتها من مطامع الدخلاء وأعداء الدين، وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمي هذا العصر ألا يهنوا ولا يتخاذلوا أمام عدوان الصهاينة على الأرض المقدسة، وأن يطهروها من رجسهم ، ببذل الغالي والنفيس.
وختاماً نقول: نحتفل بليلة الإسراء والمعراج ـــ التي كادت أن تجمع الأمة على أنها في السابع والعشرين من رجب .. وإجماع الأمة هنا وماتم التعارف عليه — في أن معجزة الإسراء والمعراج تمت في ليلة السابع والعشرين من رجب –منذ فجر الدعوة حتى الآن هما مصدران من مصادر التشريع في الشريعة الإسلامية.. ورغم أن وفاة أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها وكذلك وفاة أبي طالب وهما أشد المناصرين للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته .. كانت في رمضان من السنة العاشرة للبعثة بعد الخروج من حصار الشعب الذي استمر ثلاث سنوات ..
ورغم أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة رضي الله عنه للطائف سيراً على الأقدام ومالاقياه من زعماء الطائف الذين سلطوا عليهما سفهاءهم وصبيانهم فآذوهما.. كان في شوال من السنة العاشرة للبعثة ..
ورغم أنه تكاد تجمع الأمة على أن رحلة الإسراء والمعراج بشقيها الارض والسماوي كانت رحلة تسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتقاء وتكريم له.. فكيف تكون الرحلة في رجب وهو الشهر السابع من السنة القمرية ، بينما شوال هو الشهر العاشر هنا يدور تساؤل هل الرحلة كانت في السنة العاشرة للبعثة أم السنة الحادية عشرة ..بعد هذا التفنيد من المؤكد أنها ليست في العاشرة ..إذن بجب أن تكون في الحادية عشرة …هنا نقول بما أنها رحلة تسرية فهل تتأخر تسعة أشهر لتحدث ؟ قال البعض إنها كانت في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة ..أي بعد حادثة الطائف بأكثر من أربع شهور ..وسواء وقعت هذه المعجزة في رجب أو في غيره من الشهور وفي السابع والعشرين منه أو غير ذلك وسواء كانت في السنة العاشرة أو الحادية عشرة أو كانت قبيل الهجرة بسنة أو أقل أو أكثر هي معجزة ثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، ومن الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج لامانع من صيام نهارها– لمن أراد أن يستزيد من الأجر والثواب في هذا الشهر الفضيل المبارك الشهر الحرام (رجب الفرد) –وقيام ليلها وإطعام الطعام وإخراج الصدقات ،فذلك من أفضل العبادات في ظل الظروف الراهنة ..وكذلك
- السعي على حوائج الناس والتخفيف عنهم والذكر والتسبيح ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فالاحتفال يكون فرحاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لجنابه الشريف، ولما في ذلك من التعظيم والتكريم ، لسيد الخلق أجمعين وحبيب رب العالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..
وأما الأقوال التي تحرِّمُ على المسلمين احتفالهم بهذا الحدث العظيم فهي أقوالٌ فاسدةٌ وآراءٌ كاسدةٌ ، ولا يجوز الأخذ بها ولا التعويل عليها لأنها تحرِمُ الأمةَ الخير الكثير وتمنع الفضل الكبير.