فى أعقاب الحرب العالمية الأولى ابتدعت الحضارة الغربية فكرة ” المنظمة الدولية ” التى تقود العالم وفق معايير واحدة، وتعبر عن كل الشعوب المحبة للسلام، أسمتها “عصبة الأمم”، وبعد الحرب الثانية أسمتها ” الأمم المتحدة “، ووضعت لها قوانين دولية زعمت أنها ستطبق على جميع الدول بإرادة وقوة مجلس الأمن، الذى يضم الدول الأقوى اقتصادا وتسليحا، وفى الحقيقة لم تكن عصبة الأمم والأمم المتحدة غير أداة يدير بها الغرب الأوروبى الأمريكى المنتصر فى الحربين شئون الكون، ويضمن فرض هيمنته على الشعوب المستضعفة، التى وضع يده عليها.
ثم فى مرحلة تالية ابتدعت الحضارة الغربية فكرة ” العولمة “، لتوهم الشعوب جميعا أنهم صاروا شركاء فى صياغة الحياة على قدم المساواة تحت لافتة خادعة، ومن العولمة انتقلت إلى فكرة القيم الكونية التى ادعت أن الشعوب توافقت عليها، واقتنعت بها، وفى الحقيقة لم تكن هذه القيم الكونية المدعاة سوى قيم غربية، وضعت لتحقق المصالح الغربية والسيطرة الغربية، ولتفرض فرضا على كل الشعوب، والويل لمن لا يمتثل لها، أو يرفضها، أو يناوئها.
لايمكن أبدا أن تكون إباحة الدعارة والشذوذ والزنا والإجهاض والتضييق على الزواج الشرعى وتفكيك الأسر ونشر الفوضى قيما كونية، لأنها تناقض الفطرة السليمة، وتناقض الأديان التى تتبعها الشعوب، حتى ولو كانت أديانا أرضية.
ومرت سنوات انتشى فيها الغرب بسيادة منهجه وقيمه وأسلوب حياته على العالم أجمع، وظهر كتاب ومفكرون يعلنون انتصار ” القيم الكونية / الغربية ” القائمة على الرأسمالية الليبرالية العلمانية الحداثية، التى بلغت بها الإنسانية نهاية التاريخ، وبلغ بها العقل البشرى منتهى نضجه، فلم تعد تعترف لأحد بأية خصوصية ثقافية أو دينية أو حتى عرقية، ومن ليس معها فهو عدو مارق، وفى سبيل تعميم تلك المفاهيم الشمولية الإقصائية سقطت واندثرت شعاراتهم القديمة حول التنوع والتعدد وقبول الآخر المختلف.
ولأن الإسلام بنيان عقيدي وقيمى وأسلوب حياة يستعصى على هذه الهيمنة الغربية بكل مفرداتها، فقد صار هو العدو الأول، والعدو الأخضر بعد انهيار العدو الأحمر، وأعلنت عليه الحرب فى عقر داره بشتى الأسلحة، ومن رحم هذه الحرب خرجت نظرية ” صدام الحضارات “، التى تبرر الحرب الباردة والساخنة على الإسلام والمسلمين.
لكن مع مرور الزمن وتضارب المصالح ظهرت تيارات حضارية أخرى ترفض منظومة القبم الأحادية الغربية المفروضة باسم ” القيم الكونية”، وتنشر الوعى بخطورتها، وتنطلق معظم هذه التيارات من روسيا والصين واليابان، وهى دول ذات إرث حضاري وقيمى مختلف عن الإرث الغربى.
فى 30 سبتمبر الماضى ( 2022 ) وقف الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يخطب فى المسلمين الروس، المجتمعين لأداء صلاة الجمعة فى الساحة المواجهة لمبنى الكرملين فى العاصمة موسكو، فتحدث عن طموحات الغرب الاستعمارية، وسعيه الدائم للسيطرة على ثروات الشعوب وفرض معاييره، وهى معايير ـ حسب قوله ـ موجهة إلى الحمقى.
وهذا هو نفس الكلام الذى يقوله أى مثقف مسلم، حينما يرى تعامل الغرب بازدواجية مقيتة مع قضايا الدول والشعوب، فقد انتفض ـ مثلا ـ من أجل أوكرانيا، بينما لا يسمع له صوت إزاء الجرائم البشعة التى ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى.
ما يهمنا هنا أن الوعى بالهيمنة الغربية جزء من الوعى الحضارى لكل أمة حية، ومن ليس لديه هذا الوعي، ولا يزال يمجد الغرب ويرى فيه النموذج، فهو إما جاهل أو خادم للاستعمار.
لا توجد فى عالمنا قيم كونية ولا معايير واحدة، وإنما توجد أديان وحضارات مختلفة، لكل منها قيمها الخاصة، لكن الغرب عمل دائما على فرض قيمه على الجميع، ونصب نفسه وصيا على الشعوب، وهناك أمم عديدة قاومت هذه الهيمنة، ولاتزال تقاوم حتى لا تندثر.
وقد نهضت روسيا بوتين اليوم لتتحدث من خندق الشعوب المستضعفة، وهو أمر يثير قلق الغرب، لذلك وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن ما قاله بوتين في “خطبة الجمعة ” بأنه امبريالية روسية .
وربما يكون هذا الوصف صحيحا، إمبريالية روسية فى مواجهة الإمبريالية الأوروبية الأمريكية، أو كما يقول المفكر المغربى الصدديق الدكتور إدريس الكنبورى هى” حرب الفرس والروم” تتجدد فى القرن الواحد والعشرين، لكن بوتين لم يعط فرصة لأحد كى ينصحه بالتعايش والاعتدال والعقلانية والقانون الدولي، لأنه فهم أن الغرب لا يعرف غير لغة القوة، أما الشعراء فوحدهم الذين يحبون قوة اللغة، والغريب فى الأمر أن الغرب الذي يستعمل اللغة الخشنة، لغة السلاح والقوة، يحاول إقناع الضعفاء بأهمية القوة الناعمة”.
وفى الأسبوع الماضى نشرت صحيفة ” لوموند” الفرنسية مقالا لكاتبة صينية من شعب الإيجور المسلم تقول فيه : ” انتظر باستمرار تضامن الحركات النسائية الدولية مع نساء الإيجور، تلك الحركات التى تقول في الظاهر إنها تدافع عن قضايا المرأة كجنس أو كنوع، لكنها في الحقيقة حركات تساير الخط العام للرأسمالية الغربية والفكر الغربي، من ينظر إلى الحركات النسائية يعتقد مخدوعا أنها حركات تخدم قضايا النساء بصرف النظر عن الانتماء الديني أو الايديولوجي، لكن سرعان ما يكتشف أنها هي نفسها خط أيديولوجي، ومن ثم ستكون ضد النساء إذا اختلفت بينهما التوجهات الثقافية والدينية والعرقية، وهذا ما يحدث دائما، فالحركات النسائية مثلا ضد اغتصاب النساء، لكن اغتصاب آلاف البوسنيات لا يحرك فيها شعرة، وكذلك اغتصاب المسلمات في أفريقيا الوسطى، حيث يمارس عليهن أبشع تنكيل، لذلك لا بد من أخذ مسافة مع المفاهيم، لا توجد قيم أو معايير كونية.”