فى الأشهر الأخيرة من العام الماضى 2022، اشتد وطيس الأزمة الروسية الأوكرانية، ليسيل لعاب دول عديدة على الحبوب ومُستلزمات الإنتاج، وبعض السلع التى لا غنى لمنزلٍ عنها، رغم أن السعر بات سعرين وثلاثة، واضطرت هذه البلدان آسفةً لأن تُوفِّر من ميزانياتها التى قد لا تكون جاهزة لجلبها، وخرجت عن المألوف بالعملة الصعبة لتُرضى جموع شعبها، ويقينًا لم تنجح وسقطت من أول اختبارٍ لها فى مواجهة أزمة حقيقية أوروبا وأمريكا وبلاد العم فشلوا فى التصدِّى لها، فتباينت أسعار المحروقات والوقود والطاقة، وخرجت البنوك المركزية فيها تجمع الأموال من يد المواطنين لمضاهاة التضخم، وإن زادت أسعار الفائدة أضعاف أضعاف ما تتحمله الحكومات والموازنات.
فى مصر ومنذ نحو شهرين فقط، وبالتحديد بدءًا من العام الجديد، حدث ما توقعناه آنفًا، وهو ما من دولة إلا وسيطولها عنفوان الأزمة، لكنه كما يُقال فارق التوقيت، وقوة التخطيط، وإبطاء شدة الوقع على المواطنين للدرجة التى يعلمون فيها بأن هناك فعلًا أمرًا جللًا يعيشه المُتنفسون حولنا من بقاع العالم منذ فترة امتدت لأشهرٍ، وها نحن نستيقظ وقد لامستنا نيرانها وإن كانت ألسنتها ليست مُستعرةً بفضل الوقوف على خط المواجهة والاستعداد لها من قبل، ولمن يرى صرخة الغلاء اليوم، يعرف للتو قيمة التنمية، وضريبة الإعمار والبناء، التى أطلقنا شُعلتها لنحو 9 سنوات غير مُتوقفين ولا ساكنين؛ فى تحدٍ واضح لتغيير الواقع وتحسين الأحوال، والخروج للنور بقدرٍ من الثقة والثبات والقُدرة على التحمُّل، إذ إن عالمنا مُتقلب، ونحن فى عصرٍ يبغى فيه القوى على الضعيف، ويفرض عليه إرادته.
لا شك أن كثيرًا من أزماتنا التى عايشناها طويلًا فيما سبق تم فك طلاسمه، وحوَّلنا إخفاقاتنا فيه لنجاحات، وليكن مثالًا قطاعات مثل الطاقة والغاز والدواء والإسكان والبنية التحتية، وأيضًا العشوائيات والتوسُّع العمراني والزراعي، والترع والمصارف الهادرة للمياه، والنقل وغيرها الكثير، قد تفوقنا فيها وأنجزنا بفضل الهمة والعزيمة والإرادة فى بضع سنوات ما لا يُمكن تحقيقه فى قرنٍ من الزمان، ناهيك عن التصدير الذى فتحنا بابه رغم أننا كنا نستورد من قبل من الإبرة إلى الصاروخ بالبلدى الفصيح، خلافًا لعودة هيبتنا ومكانتنا المحلية والإقليمية والدولية، وبلا منازع صوتنا الذى علا ليسمعه من فى أدنى الأرض لأقصاها.
مُخطئ من يُحمِّل الدولة زلزال الأزمة العالمية ووقعها على السلع والحياة المعيشية، فقبل حدوثها كانت مصر تُسابق الزمن لإنجاز ما يُمكن إنجازه فى كل القطاعات وعلى مختلف الأصعدة، لأنه لا يُعقل السير بقطاعٍ وترك آخر ينهار، صحيح أن هناك أولويات يجب إعطاء مزيد من الاهتمام لها، لكن عامل الوقت ذاته لم يُسعف لالتقاط الأنفاس من مؤشرات صفرية، لأرقامٍ تتحدث عن نفسها فى كل اتجاه، وهو ما يُحسب لدولة ظلت حبيسة المتهالك لنحو 30 عامًا أو يزيد دون نظرة من متخذ القرار لإسعافها، ولعل قرار وقف بعض المشروعات المخطط لها فى الأعوام المقبلة كان نتاج استعار الأزمة على العالم كله وليس فى مصر فقط، وجاء تخفيفًا للضغط الذى سيقع على المواطنين فى ظل خامات ومستلزمات تتطلب عملة صعبة واستيراد سلع استراتيجية مُلحَّة نحن فى أشد الاحتياج إليها.
وكم كان رائعًا تصويب الرئيس السيسى البوصلة ناحية القطاعات الإنتاجية، خاصة قطاعي الزراعة والصناعة فى الآونة الأخيرة، للوقوف على أرض صلبة فى عدة أمورٍ؛ أهمها تحقيق المتطلبات المحلية من السلع الاستراتيجية كالقمح والذرة والفول وفول الصويا وعباد الشمس والأرز، وعدم استيرادها بالعملة الصعبة، بعد أن حققنا اكتفاءً ذاتيًا فى الخضراوات والفاكهة، التى أغرقت السوق المحلي وكانت بوابة الاستيراد وإدخال السيولة الدولارية وغيرها للبلاد، ومن ثم بقى التوجُّه إلى هذه المحاصيل لضبط سعر رغيف الخبز والزيوت والأعلاف التي خلقت فجوة كبيرة وتفاوتًا فى أسعارها بالأسواق، وهو ما أغضب شريحة لا بأس بها من المواطنين، إلا أن التخطيط المدروس فى عام 2023 سوف يحل المعضلة، وما تحقق فى غيرها من المحاصيل سوف يتحقق فيها، فقط نحن بحاجةٍ للهدوء وترك الحكومة تعمل وهى كتيبة مقاتلين خلف قائد لا يعرف النوم لراحة شعبه، وقريبًا سيكون النجاح حليفنا، وستنقشع الأزمة وتُصبح من الماضى بمكان.
بعد إعطاء شارة الانطلاق نحو الاهتمام بقطاعى الزراعة والصناعة من قبل الرئيس مباشرة، أطلقت الحكومة مبادرة المئة وخمسين مليار جنيه، لتكون دعمًا لهما على خمس سنوات، وهو القرار الجرئ الذى تُشرف عليه وزارة المالية حاليًا، وأظنه الذى سيقلب أوضاعهما رأسًا على عقب إنتاجيًا، خاصة إذا ما علمنا أن المبادرة انبثق عنها عدة مبادرات فى القطاعين الحيويين، كلها تدعم المزارع والصانع بقوة، وتمنحه المزايا والحوافز التى يحتاجها لمضاعفة الإنتاج، منها قروض بفائدة 11%، رغم ارتفاع الفائدة عالميًا، وأيضًا الأراضي والأسمدة والشراكة والمستلزمات، وهو ما تتحمله الدولة فى سبيل تحقيق المرجو منها، لتعظيم القدرات الإنتاجية الصناعية والزراعية وتطويرها، لتحقيق الاكتفاء والتوجه للتصدير وجلب العملة الصعبة، وذلك من خلال عودة الدورة الزراعية للقمح والأرز والفول وفول الصويا وعباد الشمس والذرة، بتحديد المساحات وفى مقابل الدعم تسليم الإنتاج والحصول على المزايا الربحية العالية، والعودة أيضًا إلى التصنيع المحلي بدلاً من تصدير الخامات للتصنيع خارجيًا لبعض المنتجات، وهو ما انتظرناه طويلًا من الدولة وها هو يكن واقعًا على الأرض.
الأزمات العالمية المتعاقبة بدءاً بجائحة كورونا وتوابعها والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها المتواصلة وموجات التضخم العالمية، أثبتت صحة الرؤية المصرية فى تكثيف الجهود المبذولة لتحفيز الأنشطة الإنتاجية والتصديرية، وفى مقدمتها قطاعات الزراعة والصناعة، تجنباً لأى اضطرابات جديدة فى سلاسل الإمداد والتوريد والنقل، والارتفاع المستمر فى أسعار السلع والخدمات، والتعامل مع نزوع كثير من الدول المنتجة للسلع والحاصلات الزراعية الأساسية إلى وقف صادراتها، تحسباً لما يحدث فى العالم، كما أن المبادرة الحكومة بإتاحة تمويل القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية، تنفيذاً لتكليفات الرئيس، تُسهم بكل تأكيدٍ فى تعظيم القدرات الإنتاجية الزراعية والصناعية وتطوير المنتج النهائى المصرى فى أهم قطاعين إنتاجيين وهما الزراعة والصناعة لتلبية الاحتياجات المتزايدة محلياً والحد من الاستيراد، وتوسيع القاعدة التصديرية، وتعزيز القوة التنافسية للمنتجات المصرية فى الأسواق العالمية، بما يصب فى زيادة الصادرات المصرية وتحقيق الخطط الموضوعة للوصول بالصادرات إلى 100 مليار دولار سنوياً، أضف إلى ذلك الميزة الكبرى فى المبادرة وهى تيسير التمويل للمشروعات بفائدة 11٪ فقط لأنشطة الإنتاج الزراعي والصناعى، على أن يتم تخصيص 140مليار جنيه لتمويل رأس المال العامل و10 مليارات لشراء الآلات والمعدات أو خطوط الإنتاج على مدار 5 سنوات؛ الأمر الذى يُسهم فى تشجيع المستثمرين على التوسع فى الإنتاج الزراعي والصناعي ودخول مستثمرين جدد فى هذا المجال، بما يؤدى إلى تعظيم المنتج الزراعي والتصنيعي محلياً، وزيادة نسبة التصنيع الزراعي، الأمر الذى ينعكس إيجاباً على سد احتياجات السوق المحلى وزيادة الصادرات.. حفظ الله مصر وشعبها من كل مكروه وسوء.