وردني سؤالان،
الأول: ما معنى (مُزجاة) في الآية الكريمة من سورة يوسف {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}..
الثاني: ورد في سورة القصص {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (القصص:٣٠)،
وفي نفس السورة {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (القصص:٤٤)،
والسؤال (كما جاء): كيف يتأتى أن يكون الأيمن هو نفسه جهة الغرب؟ والمعلوم أن اليمين مقابل للشرق لا الغرب.
سأحاول الإجابة عن السؤال الأول في هذا المقال إن شاء الله، وأرجئ الثاني للقال المقبل -بإذن الله-.
لكن، في البداية أحب أن أوضح بعض الأمور،
لا أدري لماذا تردني الكثير من الأسئلة الدينية؛ فأنا -وكما صرحت في مناسبات كثيرة- لست متخصصًا في علوم الدين ولا اللغة..
بالطبع، فمعظم السائلين هم أناس يعرفونني في واقع الحياة، مع قليل من أصدقاء مواقع التواصل الاجتماعي، الذين -ربما- لاحظوا أنني وعلى مدار ست سنوات هنا على الفيس أجتهد في الإجابة على كثير من الأسئلة المثارة على الساحة، لكن ما لا يعرفونه أنني أفعل ذلك منذ سنين طويلة..
ربما تطول مدة ردي على سؤال ما؛ لأنني أتمهل بانتظار التيسير..
يدور مقالي في العموم حول مسألة دينية بعينها، ويتكون من مقدمة أستخرج منها سؤالًا أو مجموعة من الأسئلة محل البحث، ثم الاستشهاد بأقوال أسيادنا المفسرين في تقريب المعنى والإجابة، ثم رؤيتي وإجابتي في النهاية.
قال لي صديق حبيب ذات مرة: أنت تجيب عن الأسئلة التي تدور في أذهاننا وتحيّرنا..
أستمع أحيانًا إلى إجابات الباحثين والمتخصصين حول بعض القضايا المثارة على الساحة، وإذا وجدتها غير شافية، وتتفرع منها أسئلة أخرى في ذهني، تكون علامة من العلامات التي تحركني للبحث عن أجوبة أكثر وضوحًا..
لكن، كثيرًا ما أتحرك مدفوعًا بالغيرة، بالأخص عندما يطرح خبيث من أعداء الدين القضية أو السؤال؛ مستغلًا اللغط حول أمر ما أو اختلاف أقوال أسيادنا المفسرين، كما حدث عندما كتب أحد المهاجربن العرب في أميركا – ومن قبله كثيرون- مقال له يتحدث عن إله المسلمين، وعنونه بالإله المكار (تعالى الله -سبحانه- عما يقولون علوا كبيرا) وتصديت لشرح الآية الكريمة {…..وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (لأنفال:٣٠) بشرحٍ مختلفٍ عن أسيادنا السابقين..
أو عندما ردد كثيرون قول بعض المستشرقين: إن إله المسلمين سيُدخل الإنسان ومعبوده من دون الله النار، حتى لو كان هذا المعبود ملاكًا أو نبيًّا؛ فكان تفسيري للآية الكريمة {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء:٩٨) والذي جاء مختلفًا شافيًّا، وغيرهما الكثير والحمد لله.
تعتمد إجاباتي على البحث المضني أحيانًا والفتح أحيانُا أخرى، لكن الغالب عليها بحث يلازمه فتح.
بالعودة إلى السؤال الأول،
ورد عن معظم أسيادنا المفسرين أن الفعل (يزجي) والذي ورد
في موضعين اثنين من القرآن، {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ…} (الإسراء:٦٦)، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا….} (النور:٤٣)
معناه: يُسير، يُحرك، يَدفع برفق..
لكن كيف يستقيم هذا المعنى مع اسم المفعول (مُزجاه) محل السؤال؟
قال السعدي:
{وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي: مدفوعة مرغوب عنها لقلتها…. إلى آخره..
وقال البغوي: ( وجئنا ببضاعة مزجاة ) أي: قليلة رديئة كاسدة، لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع فيها… إلى آخره.
وأقول والله أعلم:
إن الفعل (يُزْجِي) قد اتفق معظم أسيادنا المفسرين أن معناه (يُسيِّر، يُحرَّك، يَدفع برفق)، وبالنظر في المواضع التي استخدم فيها، نجد أنه استخدم لتسيير السحب ودفع الفلك لتجري فوق سطح الماء (الفلك التي تعتمد على الريح في جريانها فوق سطح الماء)، لقد استُخدِم مع شيئين نعدهما من النعم العظيمة فقط عندما يتحركان..
السحاب والفلك مع عظم نفعهما لا يملكان في تكوينهما الحركة الذاتية، بمعنى أنهما يحتاجان طول الوقت لمؤثر خارجي يدفعهما للتحرك وإلا السكون والركود، كما قال -سبحانه- عن الفلك في موضع آخر من القرآن {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (الشورى:٣٣)..
عكس السيَّارة الحديثة مثلا، والتي تتحرك بميكانيكية داخلية خاصة بها دون الحاجة للدفع الخارجي، وفي بعض الأحيان قد يتعطل موتورها فتحتاج إلى الدفع الخارجي حتى يدور الموتور ثم تتحرك بعد ذلك بفضل مكوناتها الداخلية، هنا لا يجوز استخدام فعل (يُزْجِي) مع السيارة..
ويكون اسم المفعول (مُزْجَاة) بمعنى: الذي يحتاج إلى قوة خارجية لتحريكه؛ لأنه لا يملك الحركة الذاتية (راكدًا)..
ومعناه في البيع والشراء: راكد، ولا يملك منفعة تجذب المشتري لشرائه أو المستبدِل لتبديله ببضاعته (ليس بيَّاعًا)..
وقد استخدموا هذا اللفظ لترقيق قلب العزيز عليهم لكي يجزل لهم العطاء.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد النور الهادي المبين وعلى آله وصحبه أجمعين.