تحل غدا ـ الأربعاء 10 مايو ـ الذكرى السادسة والثمانون لرحيل الشاعر والأديب والمفكر النابغة مصطفى صادق الرافعى (1880ـ1937)، أحد عظماء مصر فى القرن العشرين، عاش فى عصر العمالقة، وخاض فى المعترك الثقافى كما خاضوا، وترك لنا إرثا وافرا فى الفكر والأدب، وصار علامة من علامات مصر الحديثة، ورافدا من روافد قوتها الناعمة.
وإذا كانت عبقرية الأستاذ عباس العقاد قد جاءت من قدرته على تحدى الظروف التى أوقفت تعليمه عند الشهادة الابتدائية، وصعوده سلم العلم بنفسه حتى ارتفع فوق أعلى الشهادات، وإذا كانت عبقرية الدكتور طه حسين قد جاءت من قدرته على تحدى إعاقة البصر حتى ارتفع فوق المبصرين، فإن عبقرية الرافعى العظيم قد تحققت من صلابته فى مواجهة التحديين معا، فصنع لنفسه عبقرية تضارع العبقريتين، إذ لم يكمل تعليمه بعد الشهادة الابتدائية، لكنه بلغ فى العلم ذروته بعيدا عن التعليم الرسمي، كما تغلب على إعاقة الصمم، حيث أصيب صغيرا بمرض أثر على أعصاب الأذن، مما أضعف عنده حاسة السمع بشكل تدريجى، وأجبر بسبب هذه الإعاقة على ترك التعليم الرسمى، ثم فقد السمع تماما وهو فى سن الثلاثين، وانقطع عن الدنيا، وكان ذلك دافعا له كى يتفرغ للقراءة والاطلاع وطلب المعرفة، فراح ينهل من مكتبة أبيه (القاضى الشرعى)، التى كانت تحفل بالعديد من نوادر كتب اللغة والفقه والأدب، حتى صار واحدا من ألمع أدباء عصره، وصار جديرا بأن يخوض العديد من المعارك الأدبية والفكرية مع العقاد وطه حسين وغيرهما من نجوم الفكر والأدب فى زمانه.
كان الرافعى عبقريا متفردا بين أقرانه، قوي البيان، غزير الإنتاج، متعدد المواهب، شجاعا يمتلك الحجة وفصل الخطاب، لايكاد يطرق مجالا للمعرفة إلا ولج إليه ولوج الطالب الشغوف، وأدلى فيه بدلو الواثق المتمكن، لكنه مع ذلك لم ينل ــ حيا وميتا ـ شهرة العقاد وطه حسين ومن دونهما من الأدباء والنقاد والمفكرين، فهناك من تعمد محاصرته، والتعتيم على أدبه وفكره، انتقاما من كتاباته الإسلامية صافية النبع، فقد كان خطه واضحا منذ بدايته، وهو “مقاومة تيار التغريب ونزع الهوية، واعتبار الدين محور الوجود الإنسانى وغايته، التى ترفض كل وسيلة غير شريفة، أو أدب لايخدم فى النهاية رفعة ونبل الوجود الإنسانى”.
ولد الرافعى فى قرية بهتيم بمحافظة القليوبية لأسرة سورية الأصل، ونشأ فى بيت علم وأدب، يؤمه أعلام الفكر والثقافة، وتكثر فيه مجالس العلماء، وأتم حفظ القرآن الكريم فى كتاب القرية وهو دون العاشرة من عمره، وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية التحق بالعمل كاتبا في محكمة طلخا، ثم انتقل إلى محكمة إيتاي البارود، ثم محكمة طنطا الشرعية، واختتم حياته المهنية بالانتساب إلى المحكمة الأهلية بعد أن تمكنت منه إعاقة الصمم، لكنه كان مع هذا العمل المتواضع واسع الطموح، شديد الاعتداد بالنفس، عظيم الهمة، فاندفع يقرأ في أمهات كتب التراث، مستعيضا عن نعمة السمع بنعمة النبوغ.
وقد بزغ نجمه فى سماء الحياة الأدبية عندما بدأ ينشر قصائده وهو دون العشرين، فلفت إليه الأنظار، وحينما أصدر ديوانه الأول عام ١٩٠٣م حظي بإشادة وإعجاب نجوم عصره، فقد أثنى عليه الشيخ محمد عبده والبارودي وحافظ إبراهيم ولطفى السيد، لكن هذا الثناء لم يثنه عن قراره بترك ميدان الشعر والتوجه إلى ساحة النثر الفني الأدبي التي برع فيها.
قدم الرافعي للمكتبة العربية العديد من المؤلفات الأدبية والدينية، من أشهرها “ديوان الرافعي”، و”حديث القمر”، و”أوراق الورد”، و”تحت راية القرآن : المعركة بين القديم والجديد”، و”إعجاز القرآن والبلاغة النبوية”، و”السحاب الأحمر”، و”تاريخ آداب العرب”، و”على السفود”، و”المساكين”، و”رسائل الأحزان: في فلسفة الجمال والحب”.
أما كتابه “وحى القلم” فيعد تحفة أدبية إنسانية فنية رائقة، طبقت شهرته الآفاق، وهو كتاب كبير من ثلاثة أجزاء، متعدد الاهتمامات والمقاصد، يتضمن مقالات فى السياسة والإصلاح الاجتماعي، والتيار الوطنى، والنقد الأدبي، وتمجيد المحسنين من شعراء العربية، قدامى ومعاصرين، وفي السيرة النبوية، والسلوك الإسلامى، والإشراق الإلهى، وسحر الطبيعة، وتتبدى فيه بوضوح سمات الأسلوب الرافعى، الذى يتميز بالقوة والصلابة، وإتقان اللغة العربية، والحرص على استقامة أسلوبها وبهاء بلاغتها، وكثرة المجازات والاستعارات، والتفنن في ابتكار الاشتقاق من الأفعال، حتى لقب بـ “صاحب الجملة القرآنية”.
كان الرافعي يرى أن اللغة العربية بثرائها، وبخصائصها المميزة هي روح الأمة، وهي قوام فكرها ووعاء ثقافتها، ويجب أن تصان عن الإسفاف والابتذال، وكان شديد السخط على زخرف القول وقعقعة الألفاظ، كما كان يشترط فيمن يتصدي للنقد سعة الاطلاع وعمق المعرفة، والإحاطة بالآداب وفنونها، “حتى لا يكون الحكم على نتائج القرائح صادرا عن انطباع شخصي أو مزاج متقلب”.
وخاض الرافعي معارك أدبية عديدة على أكثر من صعيد، فهاجم سلامة موسى انتصارا للأسلوب الأدبي الرصين، وانتقد “ديوان الأربعين” للعقاد بقوة وقسوة، فثار عليه العقاد وأنصاره، ودخل معركة حامية مع لطفي السيد صاحب فكرة “تمصير اللغة العربية”، ومعركة أخرى مع طه حسين حول كتابه ” فى الشعر الجاهلى”، وكان في كل معاركه حادا عنيفا، لايعرف المداراة، ولا يميل للمجاملة، بسبب غيرته الشديدة على اللغة العربية.
وقد كتب يوما يصف نفسه قائلا : ” يخيل إلي دائما أني رسول لغوي، بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبدا في موقف الجيش تحت السلاح”.