لا أبالغ إذا قلت إن الأزمة الأزلية، والمشكلة التي هي في أصلها “أم المشاكل”، على اختلاف درجاتها، والمسألة الصعبة التي تبقى دائمًا بلا حل، بل وتلد كل يوم ألف مسألة عصية على الإجابة، وبخاصة في المجتمعات النامية، تكمن في “أنا ونحن”، ضميرَي المتكلم اللذين إذا غلب أولهما الثاني، سقط الضمير العام مغشيًا عليه، وأصبح لا مجال وقتها للكلام عن إصلاح شامل ودائم، ونور بعرض نهاية النفق، مهما بلغت حِكمة الحكم، أي حكم، وكبر الحلم، أي حلم، واشتدت وتحركت وأنجزت الدولة، أي دولة.
“الأنا” الحبر السري والمرئي في آن واحد، والذي نعرفه ونتجاهله، وتُكتَب به كل الطلاسم الحالية بالأسواق، ويختبئ خلفه – منذ ما يزيد على سنة – السبب الأول والأكبر والأخطر لانفلات الأسعار، واحتراق الجيوب، وانزلاق الطبقات الاجتماعية كل يوم، ومعاناة وأنَّات الغلابة كل دقيقة.
كم تاجرًا غُذِّيَ رصيده من حرام والنار أولى به ؟!.. كم عدد الذين اغتنوا وأفقروا غيرهم، منذ اندلاع الحرب “الروسية- الأوكرانية” ؟!.. كم مُحدَث نعمة بسبب هذه الأزمة ؟!.. ومَن ذا الذي لم يضع يده في جيب غيره، إلا مَن رحم ربي، ورحمنا منه ربي؟!
كم نذلًا، وكم خسيسًا، وكم بائعًا لضميره قبل سلعته، وبأضعاف مضاعفة، لا يُشبع نهمه للمال هامش ربح بالحلال ؟!.. كم عدد أولئك الذين “لعبوا بالدولار لعب”، وزادوا صعوبة العملة الصعبة على بلدهم ؟!.. كم منهم – للأسف الشديد – يَسعدون عندما نحزن، ويَطيرون من الفرح كلما ارتفع سعر الدولار، ولو وقع الجنيه ؟!.. ألا لعنة الله على الظالمين.
في عز الأزمة العالمية التي ضربت كل الاقتصادات ضربًا مبرحًا، وبدت علامات العنف واضحة أكثر على وجه الحياة بالاقتصادات الناشئة، ونحن منها.. ألم يُمعن البعض، بنفس فكر “الأنا”، في التهرب من حقنا وحق الدولة في الضرائب العامة، برغم أنها تُتَرجَم في خدمات عامة ؟!
ماذا عن مَن وقفوا يتظاهرون ضد تطبيق “الفاتورة الإلكترونية” عليهم، وملأوا الدنيا صياحًا كي يفلتوا منها، ومن ضبط مصادر دخولهم الحقيقية، لاستقطاع الحق العام منها ؟!.. وماذا عن الاقتصاد الموازي، غير الرسمي، الذي يشكل نحو ٥٥% من حجم اقتصادنا الكلي، ولا يدخل منه جنيه واحد خزينة الدولة ؟!
الدروس الخصوصية، التي فرضت نفسها علينا، وتُكبدنا المليارات سنويًا، وتقف حجرًا عثرة في طريق أي جهد للدولة لتطوير التعليم، ما هي أيضًا إلا إفراز صديدي متقيح لذات ظاهرة “الأنا”.. وما الطبيب الذي يعطي كل تركيزه لمرضى عيادته، ولا يمنح غيرهم نصفه أو ربما ربعه، في المستشفى العام الذي يعطيه راتبه نهاية كل شهر، إلا مثال آخر لإعلاء نفس المبدأ.. “أنا”!.. قِس على ذلك، في كل مجال يسمح بالقياس.. الشرفاء موجودون.. ولم آتِ على ذكر مَن القاعدة.. ومَن الاستثناء.
ثم، ألم يكن الفصيل الواحد، بالفكر السقيم الواحد، والمصلحة الوحيدة، يتكلم هو الآخر بصوت “الأنا”، حين قفز فوق “أحداث يناير”، وحاول اختطاف الدولة، لولا ثورة ٣٠ يونيو التي انتصر فيها الجيش لجموع الشعب.
نظريتهم ضعيفة النظر.. تقوم على “الأنا”.. وممارساتهم العدائية التي تُعميها الرغبة في الانتقام منا، ولا تزال تحارب الدولة على كل جبهات الشائعات، وتسعى إلى أن تنشر بيننا عدوى جماعية بالإحباط، عبر الفضاءين الإعلامي والإلكتروني.. كلها أعراض “مرض الأنا”، الذي لا يعترف بالصالح العام، ولا المستقبل العام.. تحكمه المصالح الضيقة، والعقول “الأكثر ضيقًا”.
ذاتها “الأنا”، من جهة أخرى، ظلت تهدم المجتمع لسنوات، بمعول الفن الهابط على كل الأخلاق والمُثل والقيم والعادات والتقاليد، والذي لم يُلق بالًا لهوية شرقية، أو موروثات ثقافية.. المكسب للفرد، ولو على حساب الجميع.. تقدمت “أنا”.. وتراجعت “نحن”.. والنتيجة أجيال جديدة لا تشبهنا.. أجيال “مهرجانات”!
“السوشيال ميديا” هي الأخرى تسلمت قيادهم، وتولت ملء أدمغتهم، وهي الآن تعيد تربيتهم على طريقتها.. وفوق منصاتها الإلكترونية بدلًا من “الأنا” ملايين “الأنا”.. صار المكسب يحسبونه ب “اللايك والكومنت والشير وعدد الفيوز”.. وغاية المراد من رب العباد “ركوب التريند”، ولو دهسنا جميعًا في طريقه.. المهم “الأنا”.. ولو من بعدها الطوفان.!!
بمد الخط على استقامته، إلى نقطة أبعد.. ألم يدفع كل سكان الكوكب الثمن من أقواتهم، في صراع بين قوى كبرى منطقها “الأنا”، ونرجسية قيادة العالم، الذي يئن تحت سمعها وبصرها، وبعلمها وإرادتها غير المنصفة.
على ذكر الدول الكبرى، والصناعية منها على وجه الخصوص.. هل فكرت في تغير المناخ، الذي تمرد بسببها على الأرض، وأصبح يهدد الحياة على ظهرها.. أنانيتها نحن أبناء الدول النامية مَن نسدد فاتورتها.. ما أكثر وعودها لتعويضنا، وما أكثر عدم وفائها بها.. وما أكبر تضررنا جراء انفلاتها الصناعي، الذي لا يراعي الاقتصاد الأخضر، بل يأكل في طريقه الأخضر واليابس.. نفس المعضلة.. مصلحتي ومصلحتنا.. “أنا ونحن”.
mhamid.gom@gmail.com