الأدب أحد المنابع الأساسية التي يمكن من خلالها قراءة الواقع النفسي والاجتماعي للمجتمع، كما أن لكل عمل أدبي مستويات من القراءة، يمكن من خلال القراءة العميقة أن نتجاوز المادي الظاهر لنصل إلى الدلالة اللاشعورية للبنية اللغوية، في ذلك يقول جان بيلمان نويل ” الحدث الأدبي لا يحيا إلا إذا انطوى في نفسه على جزء من انعدام الوعي أو من اللاوعي في نفسه ومهمة النقد هي الكشف عن هذا الجزء اللاواعي ” من هذا المنظور يمكن القول إن النص الأدبي هو ما يقدم وجهة نظر من خلال بنية لغوية تستند على تلك العلاقة الديالكتيكة بين الواقعي والرمزي، يظهر ذلك في رواية “أبو جامع” للروائي “أحمد إبراهيم إسماعيل” في عدد من المواضع:
الموضع الأول:
النص يتناول مجتمعات هامشية مضطهدة من قبل الحكومة العدو الأول و(العالم الخارجي) والمقصود هنا كل ما هو خارج (كوم أبو جامع) مكان الحدث السردي، في ص 105 يقول” حتى من حلم منهم ..،أوقفته أكاذيب الحكومة التي هي الخصم الذي سحقهم ” وفي مقطع آخر يقول ” الحياة القائمة على لقمة يوم يمر بالحد الأدنى من تضييع الكرامة من ممثلي الحكومة والموت” تتجلى هنا حالة القهر والاضطهاد والعلاقة المبنية على العدوان مع الدولة فهي بالنسبة لهم كالموت تماما ،في ص 236 ” انهالت الحجارة على الحجرة من الجموع … كرة الولعة الأولى تمسك بالباب..، دقائق كان المطرح كومة نار، اطفئتها الشرطة ..، لتجد ما خلفته أساس بسيط ولحم متفحم لجثتين” نلاحظ هنا العدوان ضد الذات المتمثلة في سكان كوم أبو جامع أنفسهم، فهذه الجماعات بالرغم من كونها تبدو كوحدة واحدة لا يستطيعون الحياة خارج هذه المستعمرة إلا إنهم يأكلون انفسهم كثعبان ابتلع ذيله ويواصل أكل نفسه حتى الموت، كما يلاحظ لدى شخوص النص السيكوباتية والشعور بالدونية يمكن التدليل عليهما من خلال الألفاظ المستخدمة في الحوار داخل الرواية مثل(أنت أبوك لقاك في بق الشيطان، حسود ، حقود، بنا الزرايب،بغل” ، في ص109 ” يصف الحب أهل الكوم فيقول ( هؤلاء الاشباه بالخارج) وتصفهم الرغبة بأنهم “بلا لون” إي إن الراوي يرى إنهم جنس طفيلي لا يمكن أن ينطبق عليه وصف إنسان فهم مجرد أشباه للبشر، غير مرئيين، وفي ص 23 يصف الكاتب الجرارات والحفارات التي اتت بها الادارة الهندسية للمحافظة وسيارات الشرطة، ويستطرد في سرد تخمينات وحكايات (أهالي أبو جامع) عن ما أتت هذه المعدات من أجله بوصفها أحلام شخصية يحاول صاحبها أن يفرضها على الجميع فمنهم من يقول إن الدولة ستبني مستشفى ومنهم من يعتقد إنها تنقب عن الآثار ومنهم من يظن إنها قرية سياحية أو محطة مترو، أيا كان المشروع هو بالنسبة لهم يمكن أن يكون مصدر رزق إلى أن قضى الأستاذ سيد على أحلامهم بتفكيره المنطقي حين قال “هذه بلوى وأي حركة غير محسوبة هذه الحفارات سوف تتسبب في انهيار الكوم فوق رؤوسنا” -ذكرني ذلك بمشهد البلدوزرات وهي تزيل المنازل في فيلم عزبة الصفيح-، هذا الوصف يوحي بمدى شعور أفراد هذا المجتمع بالدونية والتهميش وفهمهم العميق لحقيقة متأصلة فيهم بأنهم غير معترف بهم كمواطنين من قبل الدولة ويمكن التضحية بهم في إي وقت، مما يفسر لنا الشعور الهائل بالخوف والعداء لكل من هم خارج هذا التجمع، فهم كالقنابل منزوعة الفتيل مستعدين دائما لفعل إي شيء من أجل البقاء
- النقطة اللافتة النص لا يتناول مجتمع “الكوم” بوصفه نموذج لمجتمع المهمشين فحسب ولكنه في مضمونه العميق يعني المجتمع المصري كله حيث غياب العدالة الاجتماعية وغياب القانون والفساد الاجتماعي والسياسي، وغياب الأب الرمزي المتمثل في السلطة الرسمية داخل الإطار المكاني، فالسلطة هنا تتواطئ مع من يملك المال والنفوذ وليس من يملك الأرض إي (الشعب) المتمثل في سكان الكوم يدلل الكاتب على ذلك ص30 (…..تعرض بعض الأهالي بالتحرش اللفظي لفتاة من الغرباء اتضح إنها بنت رجل واصل دهس منهم من دهس وراح في رجليها خمسة شبان جرجروا للمحاكمة وعُلق الداخلية وخمس سنين سجن ” فالممثل الرسمي للسلطة هنا (الشرطة ) وهي بالنسبة لهم “عدو ظالم” وبنت الرجل الواصل هي (الغريبة) صاحبة المال والنفوذ المتطفلة على أرضهم
الموضع الثاني:
من المنظور اللاكاني الكلمة في النص الأدبي تحل محل الشيء المادي ويمكنها أن تحقق المتعة واللذة لإنها تعيد استحضار الحالة النفسية التي تدل عليها لدى القارئ، فالكلمة هي الدال والحالة الشعورية هي المدلول، هذا المدلول متغير يتحدد تبعا لأليات المجتمع وقيمه وعاداته وتقاليده والمستوى الفكري والثقافي للقارئ وأيضا وفقا لعاملي الزمان والمكان، إذا اللغة ليست شكلا ثابتا لكنها وسيلة متجدده للتعبير عن الإنسان تبعا للخبرة الحسية، فإذا عدنا مرة أخرى لأبو جامع نجد الكاتب يطرح حلولا خيالية لحل أزمات سكان الكوم من خلال إبراهيم الذي يأخذ في النص دور “المخلص” صاحب القدرة العجيبة، فهو يستطيع تجسيد القيم واستحضارها في صورة بشرية، نجده يستدعي كلمات مثل “الرغبة ، الحب، النسيان، القوة” لأنه يرى إن أهل الكوم يحتاجون لهذه المشاعر كي تتحسن حياتهم، المفارقة إنه يضعهم في صورة جسدية مخالفة تماما لأي تصور ذهني على سبيل المثال يجسد الرغبة في صورة ” عجوز مريحة ذات العكاز والحجاب والجلباب الصوفي الابيض بلا تطريز … يسألها من أنتِ؟…، تجيبه: الرغبة..، حتى يصل إلى القول في اندهاش: الرغبة زاهدة”، وبالرغم من إن هذا منافا تماما لدلالة الكلمة المجردة في أذهاننا، – وهذا ما أدركه الكاتب من تناقض فاستطرد يبرر هذه الصورة في حوار طويل معها- نلاحظ أن هذا التجسيد المتخيل قد برع فيه الكاتب بدون أن يعي، فالرغبة التي صورها امرأة عجوز تلبس الخيش ..إلخ مناسبة تماما لمجتمع أبو جامع بكل ما عليه من أوضاع لا إنسانية، ملائم تماما لأناس شاخت فيهم الرغبة في كل شيء، أناس يسوقهم العوز كحيوانات مسيرة للاستمرار وفقا لقانون البقاء وليس استحقاق الحياة، فعندما نقرأ هذا المقطع شديد الكآبة الذي ألقاه الكاتب في وجوهنا كمشاهد كاميرا سينمائية في صورة جمل وصفية منفصلة استمرت لصفحتين ونصف ” عيال يجرون وراء كلبة حبلة بالطوب، كيس كشري مخطوف من يد، ، قط وقطة مصابان يموءان، خطاب رئاسي في تلفاز مقهى القصر، خرارة، زجاج مكسور دخل في رجل، دود وجبن دخلا بطن” تطفحه سما” لولد خطف الكوب من ولية وحدوتتها، عيال تولع في ديل قط، عيال تعمل قبرين عارضتي مرمى، اذان العشاء، درس في الجامع، زحمة مقهى، حشيش رخيص….الخ” ندرك إننا أمام مجتمع يعيش بين المقابر يعاني من فقر مدقع، لن تكون “الرغبة” في نفوس شخوص تعيش هذه الحياة سوى عجوز مقعدة أو ميتة حتى، فعندما لا تتوافر الحاجات الأولية للحياة يعشش الخوف في النفوس، تصبح الغاية الوحيدة هي البقاء حيا وكل ما عدا ذلك كماليات
الموضع الثالث:
في التفاعلات بين الشخوص لم يبرز النص صورة واضحة للعلاقات الأسرية داخل كوم أبو جامع، معظم التفاعلات جاءت في إطار الانتماء للكتلة(مجتمع الكوم)، يظهر ذلك في الحوارات حول نساء الكوم في جلسات الحشيش مع عم خليل، المشاحنات والخلافات بين أفراد الجماعة تظهر في الشجار المستمر فيما بينهم، العنف القاتل سبق واشرت إليه ص 236، النموذج الأنثوي والذكوري على حد سواء لا يتخطى شخصية الهامش لا يظهر النص أي بطولة أو تميز أو ملامح قيادة لإي من الشخوص بالرغم من غياب السلطة الحاكمة عن هذا المجتمع وحلول السلطة العرفية مكانه إلا أنها بدت مشوهة ولا يمكن تعيينها في فرد بالرغم من صبغ ملامح عم خليل ببعض من ملامح السلطة الأبوية وكذلك السلطة الدينية، كما يبرز الخطاب الأيدولوجي للنص سلطة عاجزة عن التخطيط السليم لحل المشكلات، فشل الفكر الرأسمالي في تحقيق العدل الاجتماعي، ظهور التكتلات الهامشية المنعزلة بقيم وثقافة مغايرة لفكر الدولة مما يؤدي لتخليق العنف والإرهاب والمخدرات والتغييب العقلي والعداء المسبق للجميع، في ص 237 ” قبل أن يحل ليل الواحد والثلاثين من ديسمبر لم يكن هناك حي واحد في كوم أبو جامع” جاءت النهاية لا إنسانية تماما، إبادة جماعية لسكان الكوم بالرصاص والنيران والقنابل، كما يوجد نقد صريح لما يتم من قبل الإعلام من تزييف للحقائق فيقول ( صورة صبري أنابيب وجوارها قطعة الرشاش أكثر صورة نموذجية تمثل الإرهاب المسلح ) لذلك تصدرت كل الصحف ومحطات التلفاز، وينهي النص بقرار رئاسي بدخول أرض الكوم مشروع التنمية المسمى بمدينة “السلام” في مفارقة خطير بين أسم المدينة الجديدة وما تم من أحداث لاستيلاء على الأرض، النص يلفت النظر للتحولات التي تمر بها شخصية الهامش ومدى خطورتها على الجماعة وطريقة تعاطى الأنظمة معها، جدير بالذكر إن الرواية فائزة بالمركز الثاني “جائزة ساويرس فرع الشباب”، دوام التوفيق للكاتب.