أعرف أن مصريين كثيرين ممن يعيشون خارج مصر يحبونها أكثر ممن يعيشون داخلها, لكنى أثق بأن قليلاً من هؤلاء يحبونها بإخلاص عجيب يجعلك دائماً تسأل عن سر هذا الخيط الذى يربطهم بوطنهم رغم أنهم بلا شك يعيشون خارجها عيشة أفضل كثيراً ممن يعيشون فيها. من هؤلاء الناس ناصر صابر, الذى لا يحب أن يسبق اسمه بأية ألقاب، رغم أنه مهندس زراعى كبير، لكن يبدو أنه مثل أى أمريكى لا يلقى للألقاب بالاً عكس بلاد تقدس الألقاب وتطلقها حتى على الصنايعية.
عرفت ناصر صابر منذ أكثر من عشرين عاماً, التقيته للمرة الأولى فى مصر فى استراحة أحد استديوهات ماسبيرو حيث كان كلانا ضيفاً على أحد البرامج. لم أصدقه وهو يعرفنى بنفسه وقتها بأنه يعيش فى الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات طويلة جداً وهو الآن فى زيارة لمصر لحضور مؤتمر المصريين فى الخارج وكيفية الاستفادة منهم للاستثمار فى مصر. لم ينطق ناصر منذ أن عرفته بأى كلمة إنجليزى ولو فعل ما كنت ألومه حيث يعتبر البعض أن إلقاء بعض التعبيرات الإنجليزية خلال الكلام دليل على التحضر والرقى. لكن ناصر الذى يحب مصر حباً حقيقياً بعيداً عن الشعارات الرنانة يفتخر جدياً بلغته العربية كما يفتخر بمصريته. حتى عندما ألتقيه فى أمريكا تظل مصر محور كلامه واهتمامه وحبه الأبدى الذى غرسه فيه والده رحمه الله ووالدته بارك الله فى عمرها. ناصر ولد فى أمريكا لأبوين مصريين ولم يعد لمصر إلا بعد «الهاى سكول» أو الثانوية العامة حباً فى دراسة الزراعة بالإسكندرية، ثم عاد واستقر مرة أخرى فى أمريكا, لكنه مطلقاً لم يغادر مصر التى سكنت بين جوانحه حتى أصبح مهموماً بها وقضاياها وكأنه فعلاً لم يغادرها يوماً. وكما زرع عبدالعزيز صابر قى قلب ناصر وأشقائه، فعل ناصر ذلك فى قلب أولاده. كيف لا والأغنية المفضلة له هى ملحمة «صورة» للعندليب يسمعونها فى البيت والسيارة حتى فى مدارسهم وجامعاتهم من خلال موبايلاتهم حتى اشتهرت الأسرة فى نيوجيرسى وربما فى أمريكا كلها بالأسرة التى تعيش فى أمريكا لكنها تسكن فى مصر,يضحك ناصر ويقول: وهل يطيب السكن إلا فى مصر؟!
لا يزال ناصر منذ أن عرفته طيلة هذه السنوات هو ذلك المصرى عاشق الفلاحة والزراعة والذى يحلم بأن يحيل كل شبر رمال فى البلد إلى مساحة خضراء. ولأنه كما قلت رجل عملى لا يحب الشعارات، قرر أن يستثمر كل مدخراته فى مشروع زراعى كبير فى بنى سويف، بل نجح فى إقناع بعض المستثمرين الأمريكيين فى المساهمة فى المشروع. ومثله مثل أى حالم لم يفلح الروتين والإجراءات العقيمة فى أن تحول بينه وبين حلمه مهما تكبد من أموال. فيقول وهو لا يتخلى أبداً عن ابتسامة الواثق: مصر تستاهل كل خير ومهما قدمنا لها فلن يساوى شيئاً مقابل أنها منحتنا أعظم لقب فى التاريخ, لقب مصرى.
أعترف بأننى كثيراً ما ألوم ناصر وأطالبه بأن يكف عن محاولاته لكنه فى كل مرة يمنحنى درساً جديداً فى الوطنية وحب البلد, ويقول لى: لو كففت عن الحلم لبلدى فهذا سيكون آخر يوم فى عمرى، بل إننى على ثقة بأننى لو لم أحقق حلمى وأنا على قيد الحياة فسيحققه ابنى من بعدى. بارك الله لك فى عمرك وفى حلمك يا ناصر ولكل ناصر، صابر، لا يزال يملك القدرة على الحلم والسعى لتحقيقه.
hisham.moubarak,63@gmail.com