روح جديدة تبعثها الانوار المتلألئة من جنبات مسجد السلطان بيبرس بالقاهرة بعد ان عاد للحياة بعد غياب قسري وقهري اسمتد الى مائتين وخمس وعشرين سنة اي مايفوق القرنين وربع القرن من الزمان خاض خلالها غمار حروب طاحنة مع قوى الاستعمار الانفرنسي والانجليزي من ناحية وقوى التخلف والرجعية والاهمال المميت والتى تحالفت جميغها لمرات عديدة لطمس الهوية الدينية والتاريخية والاثرية لواحدة من اخصب فترات العطاء والمد الحضاري..
لذلك لم يكن حدث افتتاح واحد من اكبر مساجد مصر التاريخية القديمة والمعاصرة حدثا عاديا او مجرد اعادة الروح لبيت من بيوت الله .. بل هو اضافة نقطة اشعاع مليئة بالحيوية مشحونة بالدلالات التاريخية ولسياسية والعلمية والعلاقات الدولية وغيرها..
الاشارات والرسائل التي يحملها بيبرس كأنها مقصودة تسنصرخ الاجيال المعاصرة وتذكرهم بالقواعد الراسخة والمكانة العظيمة لمصر ودورها التاريخي والحضاري وما تفعله دائما في اوقات الازمات والشدائد الكبرى فهي المنقذ والملاذ والملجأ لابناء الامة في الشرق والغرب عندما يتحالف ضدهم الخصوم او عندما يتعرضون للهجمات الغادرة والكاسحة من القوى الدولية في كل زمان ومكان ..
أطياف الظاهر بيبرس تطل علينا ونحن غارقون في احلام الوحدة العربية وعودة دمشق وبغداد وسيطرة الامال العريضة لكثير من الشعوب باتجاه عمل مشترك لانقاذ ما يمكن انقاذه بعد الحالة المتردية التى وصلت اليها الامة شرقا وغربا تعاني الام الفرقة والتنازع والحيرة بين القوى الكبرى الغربية من ناحية والشرقية من ناحية ثانية واصبح حالنا لايسر عدوا ولا حبيبا.. واذا كنا في التاريخ المصري القديم عندما ياتي ذكر الملك مينا تستدعي الذاكرة على الفور موحد القطرين .. كذلك الحال عندما تهل اطياف الملك بيبرس على الفور نتذكر موحد مصر وبلاد الشام سوريا والعراق بل انه عندما تولى قيادة مصر وفي سنوات قليلة اصبح يعرف بحاكم مصر وبلاد النوبة والشام والجزيرة والحجاز واليمن واجزاء من اسيا الصغرى .. كل هذا مع ان مدة حكمه لم تتجاوز السبعة عشر عاما..
تاريخ عظيم ورائع وفترات يجب ان نذكرها دائما ونعلمها للابناء والاجيال بدلا من حالة الضياع والفراغ اللامتناهي التى يعبث فيها القاصي والداني بعقولهم حتى اوردوهم المهالك.
بيبرس كلمة تركية تعني «أمير فهد» ومن المفارقات ان بيبرس بدأ مملوكاً يُباع في أسواق بغداد والشام اذ ولد ركن الدين بيبرس البندقداري في أرض القبجاق (كازاخستان حاليا) عام 625هـ وأسر في حملات المغول على وسط آسيا وبيع حتى وصل إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي ضمه إلى المماليك البحرية الذين أسكنهم على شاطئ النيل وانتهى به الأمر واحداً من أعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط لقبه الملك الصالح نجم الدين أيوب في دمشق بركن الدين وبعد وصوله إلى الحكم لقب نفسه بالملك الظاهر.
الظاهر بيبرس تولى الحكم بمصر بين عامي “1260-1277” نجح في توحيد سوريا ومصر واقام نظاما صارما للإدارة العامة وأعاد بناء العديد من التحصينات وقام بتجديد مستودعات الأسلحة والذخيرة وبنى أسطولا كبيرا وربط أيضا خدمات بريدية منتظمة وبعد ذلك وجّه أسلحته ضد الصليبيين.
قبل كل ذلك نجح بيبرس وبالتعاون مع قطز في انهاء الكثير من الخلافات بين الممالك سواء في الشام او الحجاز وغيرها ووحد الجهود لمواجهة الخطر المغولي من ناحية والخطر الغربي الصليبي من ناحية اخرى..وكان يؤمن بقاعدة:لن ننتصر على عدونا الا بوحدتنا.
عندما دقت طبول الحرب مؤذنة باقتراب المغول من أسوار مصر بعث بيبرس إلى قطز يطلب إليه الأمان فعفا عنه وأحسن إليه وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قليوب وما حولها.
لمع نجم بيبرس اكثر إثر مشاركته الفاعلة في معركة المنصورة والتي كان من شأنها أن تفتح الباب أمام المماليك لحكم مصر وقد كانت مشاركة بيبرس ظاهرة في رد عدوان الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا الذي أُسر في المعركة.
كان بيبرس صاحب خطة استدراج الصليبيين إلى مدينة المنصورة عندما فتح أحد أبوابها فدخلت منه القوات الصليبية ظنا منها أنها خاوية على عروشها كما كان الشأن مع دمياط قبل شهور قليلة من ذلك فما راعهم إلا انقضاض العساكر المصرية عليهم بعد أن سدوا منافذ الخروج مما اضطر بعضهم إلى إلقاء نفسه في النيل وقد أسفرت المعركة عن خسائر فادحة في جانب القوات الصليبية التي انسحبت إلى دمياط.
تؤكد المصادر والمراجع التاريخية ان الظاهر بيبرس نجح فى زعزعة بنيان الكيانات الصليبية بعد إحدى وعشرين حملة عسكرية عليهم أدت إلى سقوط إمارة انطاكية فى يده واستيلائه تباعا على القلاع والحصون الاستراتيجية المحيطة بكونتية طرابلس ومملكة عكا.. نجحت تلك الحملات بالتدريج في طرد الصليبيين وتمكنوا من وضع حد نهائي لعصر الحروب الصليبية.
وفي مواجهة المغول ابلى بيبرس بلاء حسنا وكان الخطر المغولي بدأ يقترب من مصر بعد ان فعلوا الافاعيل في بغداد فانبرى لهم الملك المظفر قطز وقائد جيشه ركن الدين بيبرس في معركة عين جالوت الفاصلة. فقد كان بيبرس صاحب الإشارة على قطز بقتل رسل هولاكو الذين جاؤوا حاملين رسالته بالتهديد والوعيد وكان الغرض من قتلهم هو قطع الطريق على الأمراء المماليك المترددين في قتال المغول لما يعلمون من شراستهم في القتال وارتكابهم المجازر بحق الآمنين العزل، واستحلالهم دماء من يعاديهم.
هذا فضلا عن جهده الأساسي بقيادة مقدمة الجيش التي اقتحمت معسكر المغول وجرتهم إلى سهل عين جالوت حيث انقض عليهم الجسم الرئيسي من الجيش المصري والشامي بقيادة قطز، فأوقعوا فيهم خسارة كانت الأولى في تاريخهم منذ خروجهم من أواسط آسيا تحت راية جنكيز خان قبل 4 عقود من تاريخ معركة عين جالوت.وقد كانت هذه المعركة إيذانا بتوحيد بلاد الشام ومصر تحت راية المماليك.
بعد مقتل قطز وتولي بيبرس الحكم عكف على توطيد اركان حكمه والقضاء على المناوئين له والمهددين للاستقرار في البلاد سواء في مصر والشام والعراق..
غير أن أهم خطوة قام به الظاهر بيبرس لتدعيم سلطته وإضفاء الشرعية عليها كما يقول المؤرخون تمثلت في إحياء الخلافة العباسية ونقلها إلى القاهرة بعد أن محاها المغول من بغداد مما أعطاه فرصة ذهبية للسيطرة على الديار المقدسة.
وصارت القاهرة مقرا للخلافة العباسية حتى حتى انتزعها العثمانيون عام 1517 ..
شهد عهد بيبرس نهضة معمارية وتعليمية كبيرة حيث اهتم بتجديد الجامع الأزهر وعمل على إنشاء العديد من المؤسسات التعليمية فأنشأ المدارس بمصر ودمشق وفي خارج مصر قام بعدد من الإصلاحات في الحرم النبوي بالمدينة المنورة، وقام بتجديد مسجد إبراهيم عليه السلام في الخليل كما قام بتجديد قبة الصخرة وبيت المقدس،وعمل على إقامة دار للعدل مهمتها الفصل في القضايا والنظر في المظالم.
وكان الملك الظاهر بيبرس أول من تولى النظر في المظالم بنفسه من سلاطين المماليك وهو الذي أقام دار العدل يجلس فيها للفصل في القضايا يحيط به القضاة والعلماء.
ولما فشا الغلاء في مصر فرّق الظاهر الفقراء على الأغنياء وألزمهم بإطعامهم وقد أولى الاقتصاد اهتماما بالغا وحرص على إشاعة الأمن واهتم بالطرق وبنى الجسور والخانات واهتم بالزراعة بوصفها عماد الاقتصاد وأنشأ البساتين في أطراف القاهرة وفي الأرياف حتى صارت تضاهي بساتين الشام جودة وإنتاجا.
لذلك لم يكن غريبا ان يصفه المؤرخون بانه: “كان ملكا جليلا شجاعا مهيبا حسن السياسة كثير التحيّل.. وكان متنبها شهما لا يفتر ليلا ولا نهارا عن مناجزة الأعداء ونصرة الإسلام وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه وكذلك في جيشه”.
وقال عنه ابن خلكان بأنه: «كان ملكا عالي الهمة شديد البأس لم نر في هذا الزمان ملكا مثله في همته وسعادته فتح من حصون الفرنج ما أعيا من تقدمه من ملوك وذلك في مدة مملكته». ووصفه احد المؤرخين فترة حكمه بانه “حكم من فوق فرس الجهاد اكثر من الحكم من قصر السلطان “..
تجربة بيبرس وفترة حكمه غنية خصبة وملهمة لمن يتطلعون وينظرون دائما الى السماء..وكما قال فضيلة الامام الاكبر الدكتور احمد الطيب شيخ الازهر في حفل افتتاح المسجد بحضور الدكتور مولين أشيمباييف رئيس مجلس الشيوخ الكازاخي ود. مختار جمعة وزير الاوقاف ود.أحمد عيسى وزير السياحة والآثار والدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية:ان بقاء السلطان بيبرس مدة طويلة في سدة الحكم دليل على قوته ونجاح سياسته في الحكم من ناحية وهو -أيضا- دليل على استقرار المجتمع واستتباب الأمن -في عهده- من ناحية أخرى، ويجمع المؤرخون على أن الظاهر بيبرس هو أكبر مؤسس للنظام الإداري، وهو واضع أصوله وقواعده في مصر والشام في العصر المماليكي، وهو رائد الإصلاحات المتنوعة في شتى المجالات في ذلكم العصر.
وهذا كله يشهد بعظم دوره وجميل فضله فيما أسداه للإسلام من خدمات عظمى يسجلها التاريخ ومن إسهامات كبرى في القيام بواجب الأخوة الإنسانية التي توجبها الشريعة الإسلامية وقد مثل موقفه في مواجهة التتار موقف دفاع شامل عن بني الإنسان ممن عاشوا على أرض الحضارة الإسلامية دون نظر إلى دينهم أو لونهم.
بقي ان نعرف ان افتتاح المسجد رسميًّا الاحد الماضي جاء بعد نحو 225 عامًا تقريبًا من الإغلاق لم تقم فيه الشعائر فقد أسس هذا المسجد الظاهر بيبرس 666 هجرية وظل يؤدي رسالته مسجدًا نحو 550 عامًا وبدخول الحملة الفرنسية 1798م استخدمته موقعا عسكريًّا ثم توالت عليه الأحداث في عصر محمد علي ثم الحملة الإنجليزية إلى أن بدأ التفكير في إعادة ترميمه بالتنسيق مع الجانب الكازاخي ما بين 2007 و 2008 ثم توقف العمل وعاد بقوة في 2018م إلى أن تم بتكلفة تقدر بنحو 237 مليون جنيه.
والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com