أحرص دائما على التفاؤل رغم الصعوبات التي تحيط بنا من كل جانب .وتناولت في مقالات سابقة الأسباب الدينية والنفسية والاجتماعية والتاريخية التي تلزمنا بالتمسك بالتفاؤل . بهدف بث روح الأمل وزرع الثقة بالنفس والمجتمع للعمل على تجميع ما لدينا من قوة ذاتية ،وهي كثيرة ،كي نتغلب على كل الصعاب وتعود بلدنا لدورها القيادي الذي تفرضه علينا حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ.
واليوم أطرح أمامكم مشاهد حية نراها في حياتنا اليومية تكشف لنا صلابة هذا الشعب وقوة إرادته التي تظهر بشكل أكبر في وقت الأزمات .
نبدأ بعرض نموذج مضيئ لاخلاص موظف حكومي كبير واخر صغير . فقد روي لي صديق العمر ورفيق الصبا والشباب والشيخوخة أن أحد زملائه في العمل بهيئة حكومية كبرى كان معروفا بكفاءته وحماستة واخلاصه في العمل ، وفي الوقت نفسه كان يتميز بالجرأة يقول رأيه بصراحة ولا يجامل ( ينافق) رؤسائه ، وكان يقول دائما ” لا أحب الحال المايل “. فغضب عليه رؤسائه المباشرين واستفزوا الكبار وظيفيا ، فأصدروا قرارا بمعاقبته بالنقل إلى وظيفة بسيطة في وزارة التموين ، وكان على رأس هذه الوزارة في ذلك الوقت الدكتور أحمد جويلي ( 1994م -1999 م ) وهو رجل كان مشهودا له بالكفاءة والإخلاص في كل المواقع القيادية التي شغلها.
وفي فترته قامت الوزارة بضبط الأسعار فى السوق، ومحاربة الغلاء وملاحقة الفساد، ونال ثقة الشعب واطلقوا عليه مسمى ” وزير الفقراء”. وتم ترشيحه وقتها لتولى منصب رئيس الوزراء ، وكانت المفاجأة في استبعاده من الحكومة كليا . وبعد شهور من استبعاده من العمل الحكومي اجرت صحيفة “المصري اليوم ” حوارا معه نشر يوم الثلاثاء 25اغسطس 2009، وفي اجابته سؤال عن سر حب الناس له والمستمر بعد ترك الحكومة قال :” حب الناس رزق ونعمة من الله ولكن غالباً يكون الواحد عمل شىء كويس نافع ينفع الناس، خاصة البسطاء.. وأنا أدعى أنى حينما كنت وزيراً أو محافظاً كانت عيناى على البسيط الإنسان الغلبان”..
وكان قد عمل محافظا لدمياط خلال الفترة من ( 1984م – 1991م )، ثم محافظا للإسماعيلية خلال الفترة من ( 1991م – 1994م ) ، وخلال فترة قيادته لهذه المحافظة عمل على تنفيذ مشروع ( وادي السليكون ) في منطقة شرق قناة السويس ، ولكنه لم يكتمل بنقله للعمل وزيرا للتموين ، ولو اكتمل كانت مصر قد انتقلت على مصاف الدول المتقدمه تكنولوجيا . وعندما تم الاستغناء عنه بلا سبب في العمل بالحكومة عام 1999 شغل وظيفة أستاذ الاقتصاد الزراعي المتفرغ بكلية الزراعة جامعة القاهرة عدة أشهر. ونظرا لاخلاصه وكفاءته تم اختياره لمنصب أمين عام مجلس الوحدة الاقتصادية العربية التابع لجامعة الدول العربية منذ يونيو 2000م حتي 2010م. وقد توفي د.جويلي في أغسطس عام 2014 تاركا خلفه مسيرة عملية مثمرة ومسيرة علمية ثرية ، وسيرة شخصية ناصعة البياض.
نعود الى الموظف المغضوب عليه ، وهو لا يزال حيا يرزق ، وموقف الدكتور الجويلي المشرف والمنصف . بمجرد وصوله لتسلم عمله في وزارة التموين علمت جوقة الفساد من زملائهم المنتشرين في كل الجهات والمؤسسات الحكومية ( فهم كالأخطبوط منتشرين في كل المواقع ويساندون بعضهم ) سبب نقله . فالتفوا حوله وعرضوا عليه ان يجلس في بيته ويرسلون له الراتب الشهري وكل المنج المادية . فرفض وقال انا احب العمل وكيف احصل على راتب دون عمل ، وطلب مقابلة الوزير فحاولوا منعه ، ولكنه اصرعلى لقاء الوزير أحمد جويلي . وفي المقابلة شرح له ما حدث فكانت اجابة الوزير : ” انا عايز اللي زيك اللي بيحب العمل ” واسند اليه أعمالا كبيرة افادته وافادت الوطن .
عندما يكون لديك مسئولا وموظفا بهذه المواصفات ، فعليك أن تتفاءل بلا تردد. وهذه النماذج المخلصة موجودة حاليا، ولكن لا يستفاد بها .
ونماذج كثيرة أخرى تشكل سر التفاؤل .فلو نظر كل منا حوله سيجد على الأقل حالة لطفل معاق يقوم كل أفراد الأسرة على رعايته دون كلل أو ملل أو تذمر . وأعرف ابنة صديق لي رزقها الله بطفل مصاب بالتوحد ، فغيرت مسار حياتها. فرغم انها حاصلة على بكالوريوس تجارة ، درست هذا المرض وحصلت على دورات تدريبية في التربية الخاصة ، لكي تتعامل بطريقة علمية مع طفلها، وتحولت الى مدرسة باحدى مدارس الأمل يتعلم على يديها المئات من الأطفال المصابين بالتوحد. ويتزايد فخرنا بهذه الأم ومثيلاتها إذا علمنا أن هذا الطفل المعاق ضمن أشقاء آخرين تعولهم الأم .
وننظر حولنا أيضا لنرى حالات كثيرة لأم شابة توفى زوجها وتركها وأطفالها ، فتنذر حياتها لهم وتقوم على تربيتهم بمعاش قليل. وتشير إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلي أن إجمالي عدد الأسر بمصر يبلغ 18 مليون أسرة. منها 5.4 مليون تعولها امرأة ويبلغ إجمالي عددهم حوالي 25 مليون فرد. والإحصائية تكشف أن الأسر التي تعيلها إمرأة كبير جدا لدرجة أن مصطلح “المرأة المعيلة” يتزايد في المحررات الرسمية، ويتداول بكثرة كمفردة إعلامية.
وننظر حولنا ايضا لنرى زوجات صبرن لسنوات على فراق أزواجهن للعمل في الخارج لكسب لقمة عيش حلال فحفظن غيبة الأزواج في انفسهن وفي أولادهن وفي أموالهن.
إنه عطاء الأم المصرية الذي يبدأ منذ الأيام الأولي للحمل ويستمر حتي نهاية حياتها. هل تعتقدون أن مجتمعا يضم هذه الأمهات الزوجات الفضليات يمكن ان يسقط مهما تعرض للصعوبات والازمات؟.
وأسوق نماذج أخري مشرفة لتكون بمثابة شمعة نلتمس بنورها معالم الطريق للخروج من الأزمات ، وتمنحنا بعضا من التفاؤل بامكانية التغلب علي الصعوبات ، في مقدمتهم الشهداء الذين يضحون بأرواحهم دفاعا عن تراب هذا الوطن.
ومنهم قلة من المسئولين الذين يؤدون عملهم بأمانة وجدية وإخلاص ويقفون في وجه مافيا الفساد من مرؤسيهم ومساعديهم من الموظفين الفاسدين .
وبعض من رجال الشرطة الشرفاء الذين يؤدون واجباتهم الشرطية بجدية وفي نفس الوقت يقيمون علاقات جيدة مع المواطنين.
ومجموعة قليلة من الصحفيين والاعلاميين والمفكرين يتمسكون بقول الحق رغم تعرضهم لمضايقات بصور مختلفة. ومجموعة قليلة من المدرسين لا يزالون يؤمنوا بان العلم رسالة فلا يتاجرون في الدروس الخصوصية.
ومنهم جماعة من الأطباء من أصحاب الكفاءة المهنية في مختلف التخصصات، والذين يؤمنون أن الطب مهنة إنسانية هدفها تخفيف آلام المرضي ، فلم يغالوا في أسعار الكشف . ويكشفون علي أقاربهم وأهل بلدهم مجانا . ويساعدون المرضي الفقراء علي العلاج بالمستشفيات الحكومية التي يعلمون فيها ومنهم أعضاء هيئة التدريس بكليات الطب بالجامعات المصرية.
ومنهم الآف من الشباب المصري الذين حملت الظروف الاجتماعية مسئولية إعالة اسرهم بعد وفاة الوالد او بعد انفصاله عن الام ، فتحملوا بطيب خاطر مسئولية تربية اشقائهم ورعاية امهاتهم.
ومنهم فئة من عامة الشعب وربما يكون بعضهم لم يتعلم بالمدارس او الجامعات ولكنهم مهمومين بمشاكل الناس ونذروا أنفسهم لحل مشاكلهم بلا مقابل ، بل انهم ينفقون من جيبوبهم الكثير من أجل مصالحة الخصوم وفض النزاعات عبر المجالس العرفية.
هذه النماذج المشرفة وغيرها وكثير لا نعلمها تؤكد انه لا يزال يوجد بمصر بقية خير. وتؤكد قدرتها علي تجاوز صعاب الحاضر وبناء مستقبل أفضل.
Aboalaa_n@yahoo.com