كل عام وأمتنا الإسلامية فى أمن وأمان وسلام، محفوظة بحفظ الله تعالى، الذى أكرمها فأخرجها من الظلمات إلى النور، من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والهداية والصلاح والإصلاح، وكتب لها أن ترث الأرض وتعمرها، وتكون شاهدة على غيرها من الأمم، مادامت معتصمة بحبل الله المتين وشرعه القويم.
اليوم هو يوم وقوف الحجيج على عرفات، الذى أسماه ربنا جل شأنه “يوم الحج الأكبر”، واختصه بأن أعلن فيه ” البراءة ” من المشركين فى العام التاسع للهجرة، هذه البراءة التى ساهمت فى تشكيل هوية أمة التوحيد، وأعطتها تمايزها عن باقى الأمم فى العقيدة والشعيرة، ولم يعد بعدها مجال للتداخل أو الاختلاط أو التشابه، ” فلا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان”.
وكلما تمسكت الأمة الإسلامية بخصوصيتها وتمايزها عن الآخرين، وأعلنت ” البراءة ” من كل ما يخالف شرع ربها وهديه القويم، كان ذلك مدعاة لثباتها وقوتها، وأذانا بجدارتها لأن ترث الأرض، كما وعد ربنا فى قوله تعالى : ” ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين”، وقوله : ” ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون”، وقوله : ” إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده “.
ولن تكون لأمة الإسلام هذه الجدارة لوراثة الأرض إلا باتباع المنهج الربانى الذى أنزله الله تعالى فى كتابه الكريم، وأمرها باتباعه فى قوله تعالى : ” فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”، وفى قوله ” فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى”.
وكما يحمل الحج للمسلم ميلادا جديدا بعد أن يتخلص من ذنوبه، ويرجع كيوم ولدته أمه، يحمل كذلك ميلادا جديدا لأمة الإسلام، بعد أن ينتهى هذا المؤتمر الحاشد، وتطوى معه صفحة عام هجرى، لتبدأ مع شهر المحرم عاما جديدا وصفحة جديدة، تتجدد فيها العزائم لمجاهدة النفوس، ومواجهة معارك الحياة وتحدياتها ومتطلباتها، فى عالم مضطرب، يموج بالضلالات والأفكار الهدامة، ويهرول إلى مصير بائس يأخذه إلى الهلاك حتما، كما هلك الأقدمون ممن استكبروا وأفسدوا فى الأرض وحاربوا الفطرة، تلك سنة الله فى خلقه، وسنة الله دائمة وباقية، ” ولن تجد لسنة الله تبديلا “.
لقد هلكت شعوب كثيرة قديما، بسبب التحلل الأخلاقى والإفساد فى الأرض ونشر الفاحشة، وهذا هو المصير الذى ينتظر من يسلكون اليوم الطريق نفسه، بل إن هلاك هؤلاء المحدثين سيكون أعظم، لأن مفهوم ” الإفساد فى الأرض ” صار أكبر وأوسع مع التطور العلمى وتحول العالم إلى قرية صغيرة، فقد أفسدت الشعوب السابقة الأرض التى تحت أيديها فقط، أما الغربيون فإنهم اليوم يفسدون فى الأرض كلها باسم الحريات وحقوق الإنسان، ومن خلال الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ” الشرعية ” التى تتغلغل فى العالم أجمع.
إذا كان قوم لوط قد هلكوا بالحجارة، وهلك قوم هود بالصاعقة، وثمود بالصيحة، وقوم نوح بالطوفان، فإن هلاك الغربيين على ما يبدو سيكون بانقطاع النسل، وهو ماظهرت بوادره فى أوروبا وأمريكا، حيث انخفضت معدلات المواليد إلى أدنى مستوياتها حتى قاربت الصفر فى بعض البلدان، بسبب رفض الزواج الشرعى، واحتقار فكرة الإنجاب ومؤسسة الأسرة، وإشاعة الشذوذ ومفهوم الجنس الآمن، وتشجيع من يسمون بـ ” العابرين جنسيا “، ثم تعدى الأمر إلى محاربة الرافضين للشذوذ، الملتزمين بالمعايير الأخلاقية والدينية، واتهامهم بالتعصب والتخلف الحضارى ومعاقبتهم، وتلقينهم بالقوة الجبرية ثقافة الجنس الثالث والرابع.
فى إحدى مدارس كندا رفض بعض التلاميذ المسلمين المشاركة فى فعاليات تتضمن شعارات لدعم المثليين ( الشواذ)، فتصدت لهم معلمة متعصبة، ووبختهم مهددة : ” إذا لم تحترموا المثليين فأنتم لستم كنديين”، وصبت عليهم غضبا هستيريا لأنهم تربوا فى بيوتهم على رفض الفاحشة منذ الصغر، وهى تربية تحرمها وتجرمها الحضارة الغربية الحديثة، الأمر الذى دعا المجلس الوطنى للمسلمين الكنديين إلى إصدار بيان يعتبر سلوك المعلمة معاديا للإسلام.
ولا تقتصر الهجمة الغربية المتفلتة على المسلمين، بل بدأت بالمسيحيين، وفى الأسبوع الماضى وقفت أم أمريكية فى المحكمة تبكى ابنتها التى انتزعت منها غصبا، بعد اتهام السلطات لها بعدم تقبل قرار ابنتها بالتحول إلى صبي، وذكرت أن ابنتها لم تكن لديها اضطرابات جنسية، كانت فقط تعانى أمراضا عقلية، وبدلا من أن تعطى الدواء اللازم أعطيت هرمونات ذكورية لتتحول إلى صبي، واستغلتها منظمات المثليين والمتحولين فى الدعاية وحملات جمع التبرعات، لكن البنت كانت تأنف وتشعر بالضياع، لأنها فى الحقيقة لم تكن صبيا، وانتهى بها الأمر إلى الانتحار تحت عجلات القطار.
ورغم هذه الجريمة البشعة لم يتورع الرئيس الأمريكى جو بايدن من إعلان دعمه الكبير للمثليين، وطمأنة الأطفال ” العابرين جنسيا ” إلى أن حريتهم مكفولة فى التحول الجنسى حسبما يريدون، وخارجيا قاد بايدن هجوما دوليا على أوغندا بسبب إقرارها قانونا يجيز عقوبة الإعدام لممارسة الشذوذ الجنسى.
من أجل هذا تشتد حاجتنا إلى إعلان ” البراءة ” من مستنقع الدنس، كنوع من الوعي بالذات المسلمة المتمايزة، المستمسكة بفطرة الله ودينه وشريعته، ولو كره الكارهون.