كتبت سامية الفقى
فى حياتنا غرائب مسلية ممتعة ومواقف سلبية، ومع تفاعل الناس تحدث الجرائم بطبيعة الحال، ويترتب على الجرائم قضايا تنظرها أروقة النيابات والمحاكم من بعدها، وبين تلك القضايا نجد قضايا تتسم بالغرابة والدهشة.
وفى السطور التالية نتناول واحدة من أغرب هذه القضايا التى نرصد تفاصيلها على لسان المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه “أغرب القضايا”.
يقول المستشار بهاء أبو شقة، أنه وخلال وصوله لمكتبه فوجد أحد الموكلين يصر على مقابلته ويستعجل دوره حتى يلحق بالقطار المسافر إلى الصعيد الساعة الحادية عشرة ليلاً، فسمح له بالدخول.
كانت النظرة إليه منذ الوهلة الأولى مخيفة.. كان أشبه بثور بشرى شرس من الصعب ترويضه، من المستحيل السطرة على فكره او إقناعه بغير راى اعتقده.. كان ضخم الجثة طويلاً عريض المنكبين، بريق عينيه يشع منهما القسوة..جلس أمامى وقد أحضر معه سيدة في العقد الخامس من عمرها جاءت معه على استحياء على غير عادة أهل الصعيد الحضور في أقران هذه القضايا.. وأحست بما يجول في خاطرى عندما سالتها عن سر حضورها وخروجها عما هو مألوف من تقاليد وأعراف.. فبادرتنى.. ” أنا أم المتهم”.. وحبس دموعها في مقلتيها وهى تقول بصوت خفيض ملؤه الثقة ” ابنى برىء والله، وكررتها عدة مرات من قتل أخته”.. مما أدخل الشك في نفسى بصدق حديثها.
وأشارت إلى الحاضر معها ” وده خطيبها وابن عمها في الوقت نفسه.. وكان مفروض حيتجوزها قبل الجريمة بحوالي أسبوعين”.
ويروى أبو شقة، طلبت دوسيه القضية لتصفحه حتى أكون راياً قانونياً قبل قبول الدفاع في القضية، وبالفعل اطلعت على القضية وقبلت بالدفاع عن المتهم، فقد أيقنت منذ الوهلة الأولى أن المتهم بقتل شقيقته عمداً مع سبق الإصرار والترصد والذى أصر على الاعتراف بقتلها ومثل كيفية ارتكابه للجريمة برىء.. وأنه ليس القاتل.. وأن للواقعة صورة أخرى مغايرة تمام التغاير ومخالفة كل الخلاف لما جرى عليه اعترافه الذى أصر وصمم عليه طيلة فترة الاستدلالات والتحقيقات أمام النيابة العامة.
كانت نظرات المتهم حادة وقسمات وجهه التي تنطق بالجدية والإصرار على المضي باعترافه مهما كان الثمن، ولو كان حبل عشماوى ملفوفاً حول رقبته، كان يجلس في قفص الاتهام كالطاووس نافشاً جناحيه وسط أبناء قريته الذين اكتظت بهم القاعة عن أخرها.. وهو ما يلبث أن يتجول في قفصه بين الحين والأخر مستعرضاً قوته، مؤكداً للجميه نخوته ورجولته، موزعاً نظراته على الجميع الذين كانوا يبادلونه نظرات الفخر والإعجاب ويحسون فيه الرجولة بمعناها الحقيقى، المدافع عن شرفه وشرف أسرته.. بل القرية بأكملها، لم يكن بالقرية موضع قدمن فقد جاء الجميع ليشهدوا محاكمة ابن قريتهم.. الرجل بمعنى الكلمة ، صاحب النخوة الذى لم يتحمل خروج شقيقته عن العادات والتقاليد التي توارثوها منذ أمد بعيد.
لم يكن لديه خيار أمام أهله وذويه، وأهل قريته سوى الثأر لشرفه.. أن ينتقم لكرامت، وأن يثبت للجميع أنه الرجل القوى الذى لا يهاب شيئاً، ولا يرهبه حتى حبل المشنقة، واستبد به شيطان العادات والتقاليد والأعراف البالية، أنهإذا لم يثأر لشرفه وينتقم لكرامته سيصبح أضحوكة الجميع.. سيمحون اسمه من سجل الرجال.
أما شقيقته فكانت ريفية يفور منها الجمال وتتدفق منها الأنوثة، كانت بيضاء اللون.. ممشوقة القوام، شعرها الأسمر الطويل يزيدها جمالاً على جمالها، كان كستائر الليل بمجرد أن يبتلع البحر قرص الشمس وقت الغروي، وقد أكسبها هذا الجمال الطبيعى الطاغى ثقة بنفسها بلا حدود وتمرداً على واقعها الريفى الذى حال بينها وبين إتمام دراستها، فقد كانت متفوقة في دراستها وحصلت على مجموع كبير في الثانوية العامة، كانت أمنيتها ان تكمل تعليمها الجامعى وتتفوق فيه وتحصل على الشهادة العالية، لكن أخاها أصر على أن تقف عند هذا القدر ، وقد فرضت عليها التقاليد أن تعد نفسها للزواج من ابن عمها القروى الثرى، الذى دفن فكره وأغلق عقله في معتقدات أهل قريته، وأنه أولى من غيره وأحق بالزواج من ابنة عمه، خاصةً بعد أنا قرأ المرحوم والدها الفاتحة لهما منذ طفولتهما.
وفى هذا الوقت كان تفكيرها يسير في خط معاكس وفى طريق متناقض ضد كل ما خطط له، وعليه هو أن يسير في طريقه ومنطقه الذى تحكمه القوة والعنف والبطش.. لقد رأت أن مستقبلها يرتبط بمستقبل مهندس شاب كان يعمل في إحدى الشركات قريباً من قريتها، جمع الحب بين قلبيهما منذ النظرة الأولى التي التقط نظراتهما أثناء عودتها من المدرسة، والتقيا أكثر من مرة، والتحف حبهما واعتصم بأشجار الحقول ونما تحت تغريد العصافير، وتعددت اللقاءات بينهما، وامتلاء قلبهما بالحب الذى تناقلته الطيور على أوراق الشجر من كثرة لقئهما ومن يض ما سمعوه من أحاديث الحب وتنهيدات الغرام.
انتشرت قصة حبهما بين أهالى القرية وتناقلتها الألسنة كل حسب ما خيل له شيطان هواه بل وجنح بهم ميزان التخيلات المسمومة إلى حدود بعيدة لا أساس لها، فقد كان حبهما شريفاً نقياً عفيفاً، ولكن ألسنة الناس لا ترحم وتخيلاتهم وشطحاتهم لا تقف عند حدود، فقد شاع الخبر بين أبناء القرية على هذا النحو الكريه مسرى الريح، ونما إلى علم شقيقها هذه الأحاديث الهامسة، ولم يكن بمقدور أحد من أهل القرية أن يواجهه بالحقيقة، فجن جنونه وحمل سلاحه النارى، وأطلق الرصاص على المحبوب قاصداً قتله، وشاء القدر أن ينجو من الموت بأعجوبة بعد أن انبطح على الأرض متخذاً ساتر كان وجاءً له ومانعاً من نفاذ الرصاصات المتلاحقة إلى جسده والذى لولاه للقى حتفه في الحال.
الفتى لم يقابل الإساءة بمثلها، وقدر مشاعر الأخ والظروف والعادات والأعراف والتقاليد التي يعيش أسيراً في دائرتها، ولا يملك إلا الانصياع لها مجبراً، ولم يجابه ثورة الأخ ونيته القضاء عليه بانتقام مقابل، كان بوسعه أن يزج به في غياهب السجن وينفرد بمحبوبته، ولكن سمو فكره وحسن تقديره ووزنه العاقل للأمور كان هادياً له، غلبت عليه أخلاقه وشهامته واستبدت بفكره وقراراه.
فبالرغم من أنه رأه وتأكد من أنه هو الذى أطلق النار عليه، إلا أنه رفض اتهامه وحتى بعد ان اكدت التحريات أنه هو الذى شرع في قتله، وواجهته النيابة بها، أصر على أنه ليس المتهم، وانتهت القضية بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم معرفة الفاعل وقيدت القضية ضد مجهول، وحفاظاً على حياة المهندس تم نقله إلى مكان اخر بعيد خواص من تكرار ما حدث.
بعد الوقعة ازدادت شراسة الأخ واستبد له عناده على تزويج شقيقته من ابن عمها، بل وأصر ابن عمها على ضرورة إتمام هذا الواج بأسرع ما يمكن قطعاً للألسن ووضع حد للقليل والقال، ولكن الأخت أصرت على الرفض.. بل وأكدت لوالدتها أن الموت أهون عليها من الزواج من هذا الأمى. ضيق الأفق، محدود الفكر، وأن تقدم على الانتحار لتقدم جثتها للموت الأبدى خير من أن تقدم جسداً بلا روح، جثة مجردة من الإحساس والمشاعر لهذا الوحش، كانت تتخيل بين الحين والأخر أنها جثة هامدة يلتهمها في وحشية بين أنيابه التي تقطر دماً في نهم يتلذذ في أنانية.
فجأة اختفت الأخت وكأن الأرض انشقت وبلعتها، وانتشرت الشائعات في القرية وسرت مسرى الريح تؤكد أن شقيقها أو ابن عمها قد قتلها حتى يتم التخلص من عارها، ولم تمض أيام على اختفائها حتى ظهرت جثة طافية في نهر النيل الملاصق للقرية، وتم استخراج الجثة، كانت مشوهة الوجه على نحو يصعب معه الوقوف يقيناً على صاحبتها.
أثبت مفتش الصحة الذى انتقل فور العثور عليها لمناظرة الجثة، وإثبات حالتها وعما إذا كانت الوفاة طبيعية أم جنائية، وجاءت النتيجة أن الوفاة جنائية نتيجة الاعتداء عليها جنائياً، كما جاء بالتقرير وجود إصابات مدممة بارأس وترك تحديد سبب الوفاة والالة المستخدمة في أحداثها للطب الشرعى.
كانت المفاجأة إذ تقدم الأخ معترفاً بأن الجثة لشقيقته وأنه قتلها ليغسل عاره، ولينقى ثوب الأسرة الأبيض من دنس هذه الفاجرة التي لطخت سمعته وأذلت كبرياءه، كانت هذه هي صورة لاحداث الدعوى التي وقفت أمام المحكمة مدافعاً عنه.
ويقول المستشار أبو شقة، أن جاء اعتراف المتهم حسبما رصدت التحقيقات على لسانه، بانه استدرج شقيقته إلى الشاطئ النيل ليتفاهم معها بعد أن أوهمها بانه قبل زواجها من المهندس، وأنه يرغب في الوقوف على معلومات عنهن وقبل دعوته لإتمام هذا الزواج، وتجاذبا الحديث وأثناء محاولته إثناءها عن فكرتها وإصراره على زواجها من ابن عمها قفزت في النيل محاولة الهرب، لكنه ألقى بنفسه في المياه وتعقبها وضغط على رأسها في المياه قاصداً إغراقها، حتى تأكد من موتها وتركها جثة هامدة وسط المياه، وراى التيار يجرفها وهى تعوم على سطح الماء.
في حين أن تقرير الصفة التشريحية أكد أن الجثة تضمن عدة حقائق، أن الجثة تم انتشالها وهى في حالة انتفاخ شديد وتحلل، أن سبب الوفاة هو إصابات قطعية بالرأس، أي حدثت قبل الوفاة وأثناء الحياة، أنه بتشريح الجثة لم يتبين وجود مياه بداخلهان فطلبت مناقشة الطبيب الشرعى خلال جلسة المحاكمة.
وسألته هل من الممكن فنياً أن يكون سبب الوفاة اسفسكيا الغرق دون ان يتبين من التشريح وجود مياه في الرئتين؟، فأجاب لا لابد أن يوجد مياه بارئتين إذا كان الموت نتيجة الغرق، فسألته هل يمكن للجثة أن تطفو فور وفاتها، فأجاب لا وهى استحالة لان كثافة الجثة لا تسمح بذلك إلا بعد فترة زمنية تنتفخ فيها وتطفو على سطح الماء.
وبدأت مرافعتى طالباً البراءة للمتهم مستهلاً دفاعى بان الحقيقة في الدعوى أن المتهم لم يقتل شقيقته، واعترفاه أقوال ضعيفة لا أساسا لها من الصخة بعد استجواب الطبيب الشرعى، وحديثه مخالف للواقع زهو ما أكد كذبه الطبيب الشرعى.
وخلال مرافعتى، حدثت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد لا الدفاع ولا هيئة المحكمة، ولا حتى المتهم داخل قفصه، ظهرت الأم بصوت مرتفع تطالب من هيئة المحكمة الحديث، وتصطحب معها فتاة توشحت بالسواد الذى غطى جسدها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، وطلب القاضي أن تزيل النقابن وزالت النقاب ابلفعل وكشفت عنه وجهها إنها أخته التي اعترف بقتلها.. جاءت بصحبة أمها التي كانت تصيح صيحة مذعورة ” أنا بصفتى أم أردت حمياة ابنتى بعد ان شعرت بان ابنى وابن عمها قد اتفقا على قتلها، والبحث عن المهندس لقته، يقتل اخته باسم العار، أي عار ارتكبته أبنتى؟، لقد أحبت حباً شريفياً، فهدانى الله أن أقف مع ابنتى وطلبت منها الاختفاء بسرعة من القرية عند أحد أقاربنا بالقاهرةن وطلبت منها ان تطلب من المهندس الشاب وتتزوجه على أعين الأشهاد وعلى سنة الله ورسوله”.
وتابعت الأم حديثها، “وقدمت قسيمة زواج ابنتها الشرعية، وأضافت بفرحة هذا الزواج أنتج عن جنين في جسد ابنتى، وصرخت صرخة اسمعت الجميع لعنة الله على هذه المعتقدات البالية، هل كنت على حق عندما اخترت هذا الطريق؟، عندما أصدرت قراراى لأخمد ناراً كانت ستلتهم الجميع، هل أجرمت ابنتى عندما تزوجت؟.
تبدلت مشاعر الجميع بالفرحة والسعادة، مباركين الزواج وهكذا تقدم ابن عم القتاة بالتهنئة والفرحة، وفى هذه الأحيان صدر قرار القاضي ببراءة المتهم من تهمة قتل شقيقته