رغم كل الادعاءات الكاذبة عن العلمانية والديمقراطية وحرية الاعتقاد وحرية التعبير فى الغرب، فقد صار مألوفا أن تقوم جماعات متطرفة أومأجورة بحرق نسخ من المصحف الشريف تحت سمع وبصر السلطات فى بعض الدول، مثل السويد والدانمارك وسويسرا وبلجيكا وفرنسا وإسرائيل، وتنشر رسوما وتعليقات مسيئة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وصار مطلوبا من المسلمين أن يستقبلوا هذه الجرائم والإهانات بصدر رحب، ويتعاملوا معها بروح التسامح، ليثبتوا أنهم متحضرون، فشعوب الغرب تهين كتابها المقدس، وتسخر من أنبيائها، بل من آلهتها، وقد بلغت مع ذلك ذروة الحضارة، فلماذا يغضب المسلمون منهم إذا أهانوا نبي الإسلام وأحرقوا كتابه؟
هذا المبرر السخيف تسوقه الأبواق الغربية للتغطية على جرائمهم، والتهوين من شأنها، حتى يعتاد المسلمون على ما اعتادوا هم عليه من تحطيم المقدسات، وهدم القيم الدينية، ومما يؤسف له أن الأبواق العلمانية عندنا تردد وراءهم هذه الأباطيل، مع أن لديها حساسية مفرطة إزاء أية إساءة تقع فى بلادنا لأى دين آخر غير الإسلام، مهما صغرت، حتى وإن كانت بشكل فردى، ولا تدعمها السلطات، ولا يرضاها المجتمع.
فى بلادنا لدينا احترام دينى وتاريخى للأديان والعقائد، مهما كان اختلافنا عنها، أو اختلافنا معها، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن استمرار كنيستنا الوطنية وقوتها على مدى تاريخها الطويل، يرجع إلى الإسلام الذى حافظ على خصوصيتها، واحترم حريتها وحرية أتباعها فى اعتناق العقيدة التى يرضونها، من باب ” لكم دينكم ولى دين “، وحافظ أيضا على استمرار وجود الجاليات اليهودية فى بلاد المسلمين، بينما كانت أوروبا إلى مطلع القرن العشرين تكيد للمسلمين واليهود من كل جانب، حتى لايكون لهم وجود فيها.
لقد فتحنا المشرق والمغرب، وبلغنا أرقى درجات التقدم العلمى والحضارى عندما كنا أكثر التزاما بديننا، وأقرب إلى عصر الرسالة، وهم فى الغرب يعتقدون أنهم لم يبلغوا مابلغوا من القوة والتقدم العلمى والحضارى إلا عندما نحوا دينهم عن الحياة وقيدوا كنيستهم، وهم اليوم يريدون منا أن نقبل منهجهم ونتبع طريقتهم، ونسقط قداسة الدين والأنبياء والرسل، ولا نرى بأسا فى حرق المصاحف، والسخرية من السنة المطهرة.
وحتى عندما حاربنا الصليبيين، وقاومنا الاستعمار الحديث، لم يحدث فى تاريخنا حرق الإنجيل، أو حرق الكتاب المقدس، وفى حربنا الطويلة مع إسرائيل لم يخرج من بيننا من يجاهر بحرق التوراة، أو التلمود، ولو حدث وأقدم مخبول على شيء فى ذلك يلفظه المجتمع المسلم، ويعاقبه القانون.
ومن عجيب زماننا أن الغرب الذى يدعو إلى حرية الفكر، ويدين ثقافة حرق الكتب مهما بلغت تفاهة محتواها، ويرى فى حرق أي كتاب جريمة همجية بربرية، ويتبرأ من وقائع حرق الكتب التى سجلها التاريخ فى عصور الانحطاط الحضارى، هو نفسه الغرب الذى لا يجد غضاضة إزاء ثقافة حرق المصاحف، بل يشجع عليها، ويدعى أنها من حرية التعبير، ومن حقوق الإنسان، وهذه الازدواجية كافية لتؤكد أنه يحمل حقدا عظيما على هذا الكتاب الكريم.
فى أول أيام عيد الأضحى الماضى قام المواطن العراقى الأصل، سلوان موميكا، المقيم فى السويد، بحرق نسخة من المصحف الشريف، ولا أقول حرق القرآن الكريم، بعد أن حصل على موافقة السلطات السويدية، وقامت الشرطة بحراسة المظاهرة التى ارتكب فيها هذا المجرم جريمته مع مجموعة من اليمين المتطرف تحديا للمسلمين فى عيدهم، مايعنى أن السلطات هناك موافقة ومتواطئة ومتورطة، ولا مجال لأى حديث مغلوط عن كون الجريمة فردية ولا تعبر عن موقف رسمي للحكومة، وغير ذلك من المبررات السخيفة التى يسوقونها لتمرير الفعلة المشينة.
إن موقف السويد يعبر عن تطرف علمانى بغيض، يعكس تطرف دولة أعطت رخصة للمظاهرة، وقامت على حماية المتظاهرين حتى أتموا جريمة الحرق، ولا أحد يجاهر بإدانة هذا التطرف، أما المسلمون فهم المتهمون بالتطرف على طول الخط، وهم المطالبون بتغيير مناهجهم الدراسية، وكتابهم متهم بسبب آيات بنى إسرائيل، وتاريخهم متهم بسبب الفتوحات، وقادتهم متهمون لأنهم انتصروا ورفعوا رايات الحق والعدل.
التطرف العلمانى الغربى يدس أنفه فى كل تفصيلة من تفاصيل حياتنا، ويتبعه قوم مضللون مخدوعون، مع أن جريمة السويد وما سبقها من جرائم مشابهة جديرة بأن تكشف حقيقة العلمانية الغربية التى يجرى الترويج لها فى بلادنا، هذه العلمانية التى تبدأ عادة بادعاء أنها لا تتبنى موقفا معينا من الدين، ثم تنتقل إلى مرحلة أنها ضد الدين لكنها تتسامح معه، ثم يتطور الأمر إلى أن الحرية تتطلب انتقاد الدين، ثم تصل إلى مرحلة المكاشفة بأن الدين مضاد للحداثة، ويجب محاربته كى لا يعوق حركة المجتمع نحو التحضر والتحرر.
ولا تعترف هذه العلمانية بالقيم والعدل والحقوق، وإنما ترتدع فقط أمام القوة، وقد تراجعت السويد عن موقفها من حرق المصحف، وأصدرت بيانا تدين فيه هذه الجريمة العنصرية، وتعتبرها ” عملا معاديا للإسلام “، وذلك بعد أن ارتفعت أصوات العلماء ـ وفى مقدمتهم شيخ الأزهر ــ للمطالبة بمقاطعة المنتجات السويدية، وبعد أن هددت منظمة التعاون الإسلامى باتخاذ إجراءات لعدم تكرار أفعال مماثلة.
وعقب هذا التراجع مباشرة خرج المجرم سلوان موميكا فى فيديو مصور يستنجد ويطلب الحماية، ويظهر على وجهه الخوف والفزع والانكسار، بينما أعلنت أسرته فى العراق براءتها منه ومن جريمته، ولعل فى ذلك درسا لكل من باع نفسه للشيطان، فقد استعمله اليمين المتطرف ثم تخلى عنه كخرقة بالية، والآن هو فى بلدهم، المتطرف فى علمانيته، لكنه معزول محاصر، أدى دوره وانتهت مهمته، وهو لايخشى حكومة أو دولة، بل يخشى الناس فقط، فحماة الإسلام فى كل مكان هم المسلمون، والقرآن بالنسبة لهم خط أحمر.